والواقع أن رسالة الغفران امستلهمت كثيرا من هذه المنابع وفي مقدمتها التاريخ الذي استقت منه ذاكرة أبي العلاء كثيرا من الأحداث والتقطت كثيرا من الأسماء فوظفتها من خلال التحوير واعادة التشكيل توظيفا فنيا على نحو ما أشرنا ، ولقد نعجب لكثرة الأسماء التاريخية التي وردت في رسالة الغفران والتي تكاد تبلغ ستمائة اسم (31)
مشكلة غابة كثيفة من الأسماء الحقيقية كان يمكن أن تكون عائقا أمام حرية الحركة لدى الحاكي التخييلي ولكن أبا العلاء كان يعرف طريقه الخاص في المسارب الضيقة في غابة الأسماء ، ولقد يلاحظ أن معظم هذه الأسماء يلتقي بها ابن القارح في الجنة أو في مشاهد الحشر وأن نفرا قليلا هم الذين اضطرهم أبو العلاء أن يرافقوا إبليس في النار ، حتى أن بعضا من شعراء الجاهلية تسرب الى الجنة لأن بيتا قاله قد غفر له ، والى جانب التاريخ توجد "الأساطير" كمصدر قصصي للحكاية عند أبي العلاء ومعظم هذه الأساطير تنتمي الى عالم الحيوانات والزواحف مثل أسطورة الحية الوفية "ذات الصفاء"(32) التي وفت لصاحبها وكانت تصنع اليه الجميل ، ولكن صاحبها لم ينس أنها كانت قد قتلت أخاه من قبل فحاول أن يغدر بها وأن يضربها بالفأس وهي على الصخرة "فلما وقيت ضربة فأسه ، والحقد يمسك بأنقاسه ، ندم على ما صنع أشد الندم ... فقال للحية مخادعا: هل لك أن نكون خلين ؟ فقالت : لا أفعل وان طال الدهر " وتلك الحية يلتقي بها ابن القارح في الجنة جزاء وفائها.
ومنها الحية التي كانت تسكن في دار الحسن البصري وحفظت عنه القرآن من أوله الى آخره (33). فلما توفي رحمه آلله . انتقلت الى جدار في دار أبي عمر بن العلاء فراجعت عليه القرآن وقراءاته وهي تحاور ابن القارح في القراءات ورواياتها وعندما يشتد عجبه تدعوه الى الاقامة وتعده بأنها يمكن أن تنتفض فتصير مثل أحسن غواني الجنة ، لو ترشف رضابها لعلم أنه أفضل من الترياق ، ولو تنفست في وجهه لعلم أن ريح عبلة التي كان يحن اليها عنترة في قوله :
وكأن فارة تاجر بمقسمة سبقت عوارضها إليك من الفم
ليست بجانب ريحها إلا كرائحة البخر، في الفم ، لكن ابن القارح يصاب بالذعر من اقتراحها وينصرف
ومن عالم الحيوان يلتقي ابن القارح في الجنة "بأسد القاصرة " ويعجب عندما يجده يلتهم من الظباء المئة والمائتين وهو الذي كان في الدنيا "يفترس الشاة العجفاء فيقيم عليها الأيام لا يطعم سواها شيئا"(34).
فإذا ما سأله عن خبره ، عرف أنه الأسد الذي استجاب لدعوة الرسول كيف عندما جاءه عتبة بن أبي لهب وكان النبي قد زوجه ابنته رقية قبل البعثة ، فلما بعث جاء عتبة وقال : يا محمد ، أشهد أن قد كفرت بربك وطلقت ابنتك ، فدعا الرسول ربه أن يسلط عليه كلبا من كلابه ، فخرج الى الشام مع ركب حتى إذا كانوا بوادي القاصرة وهي أرض فيها سباع نزلوا فافترشوا صفا واحدا فقال عتبة : أتريدون أن تجعلوني حجرة ، لا والله لا أبيت إلا في وسطكم ، فجاء السبع ليلا وهم نائمون ،فشم رؤوسهم رجلا رجلا، حتى انتهى الى عتبة فأنشب انيابه في صدغيه ، فصاح : قتلتني دعوة محمد (35)، ويلتقي كذلك في الجنة بالذئب الذي تكلم على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) عندما خاطب أهبان الأسلمي وكان في غنم له فهجم عليها ذلك الذئب فلما صاح به الاسلمي ، وكان الذئب جائعا جريحا منذ ليال كثيرة أقعى على ذيله وخاطبه قائلا: أتحول بيني وبين رزق قد ساقه الله إلي ؟(36).
والى جانب الأساطير قد تكون الصورة الاستعارية العابرة تبعا لحكاية طريفة ، فأنهار الخمر في الجنة "تلعب فيها أسماك على صور السمك بحرية ونهرية وما يسكن في العيون التبعية إلا أنه من الذهب والفضة وصفوف الجواهر ... فإذا مد المؤمن يده الى واحدة من ذلك السمك شرب من فيها عذبا" (37) فهذه الصورة الاستعارية التي يتردد نمطها كثيرا في رسالة الغفران _ تفجر نبعا للحكاية ، يضاف الى ينابيع الانسان والجان والزواحف والطير والحيوان .
ينسج أبو العلاء من هذه الروافد ألوانا من الفن القصص تتراوح أشكالها بين التعبير القصصي والمشهد القصصي ، والمشاهد المتتابعة والقصة المكتملة ، ويتحقق في بعضها الكثير من العناصر المألوفة في الفن القصصي، من التشويق والعقدة والمفاجآت للحل .
وفي إطار المشاهد القصصية المتتابعة ، تأتي حكاية نجاة الأعشى من النار، فقد سأله ابن القارح عندما فوجيه به في الجنه (38)؟ : "كيف كان خلاصك من النار، وسلامتك من قبيح الشنار؟ فيقول : سحبتني الزبانية الى سقر فرأيت رجلا في عرصات القيامة يتلألأ وجهه تلؤلؤ القمر. والناس يهتفون به من كل أرب : يا محمد يا محمد.، الشفاعة الشفاعة !! نمت بكذا ونت بكذا، فصرخت في أيدي الزبانية : يا محمد أغثني فإن لي بك حرمة ! فقال : يا علي ، بادره فانظر ما حرمته ؟ فجاءني علي بن أبي طالب صلوات آت عليه وأنا أعتل كي ألقى في الدرك الأسفل من النار، فزجرهم عني وقال : ما حرمتك فقلت أنا القائل :
فاليت لا أرثي له من كلالة
ولا من حفي حتى تلاقي محمدا
نبي يرى ما لا ترون ، وذكره
أغار لعمري في البلاد وأنجدا
ولقد كنت أؤمن بالله وبالحساب وأصدق بالبعث وأنا في الجاهلية الجهلاء.. فذهب علي الى النبي، (صلى الله عليه وسلم) فقال :يا رسول الله ، هذا أعشى قيس قد روي مدحه فيك ، وشهد أنك نبي مرسل ، فقال : هلا جاءني في الدار السابقة ؟ فقال علي : قد جاء ، ولكن صدته قريش ، وحبه للخمر فشفع لي ، فأدخلت الجنة على الا أشرب فيها خمرا فقرت عيناي بذلك .. وكذلك من لم يتب من الخمر في الدار الساخرة ، لم يسقها في الآخرة ".
ويلاحظ أن المشاهد القصصية تتوالى في سهولة ويسر بل وفي مستوى لفري ميسور يختلف عن المستوى الذي تلجا اليه رسالة الغفران ذاتها عندما يتصل الأمر بمناقشة اللغويين أومحاجة النحاة أو محاكاة الشعراء من بني الانس أو الجان ،وكأن القص في ذاته يمثل مستوى من مستويات التأليف يلبس له الراوي مسرحه الخاصة ، ولا يجيء عرضا أثناء الحديث عن أمر آخر، ولنتأمل في "العقبات " التي تنتشر في المجرى القصصي وتجعل أنقاس السامع لاهثة وراء الحدث ، فبين سحب الزبانية ومصادفة رؤية وجه الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهو اخ الأعشى واصرار الزبانية ، وقدوم علي وسحب الأعشى الى الدرك الأسفل ، وزجر علي لهم ، وسماع القصيدة والاعتراض بأنها لم تقل على سمع الرسول في الدنيا والاعتذار بمؤامرة تريش وحب الخمر والانتهاء بالشفاعة مع شرط يمثل المفاجأة الأخيرة ، الحرمان من شرب الخمر لعاشق الخمر في جنة تجري بها الخمر انهارا، هذه المواقف المتعارضة المتكاملة تشف عن جانب كبير من براعة القصاص في رسالة الغفران .
على أن القصة التي بلغت أوج الاكتمال في رسالة الغفران دون شك هي قصة ابن القارح نفسه في موقف الحشر، فهي تعد قصة مكتملة بالمعنى الفني، وهي قد سميت "قصة " على لسان أبي العلاء نفسه عندما قال ابن القارح في مقدمتها : "أنا أقص عليك قصتي"(39) وهو تعبير يحل محله في المشاهد القصصية الأخرى مقدمات أخرى مثل ما خبرك ؟ ما حدثك أخبرني عن كذا. . الخ .
وهي من حيث الكم تحتل أكبر مساحة متصلة لموقف واحد يحتل نحو خمس عشرة صفحة (40) الى جانب تغير الأماكن التي تدور فيها الأحداث من مشهد الى مشهد ، واختلاف شخوص الأبطال كذلك من موقف الى موقف ومرد هذا التميز دون شك ، يعود الى أن هذه القصة تعد محور "رسالة الغفران " فهي تمثل الرد الرئيسي على رسالة ابن القارح والاجابة على تساؤلاته الحيري حول قبول التوبة واحتمال تحقق الغفران ، وهي اجابة لم يشذ أبو العلاء أن يجعلها من *** السؤال فتكون طرحا لاحتمالات أو سردا لأدلة ولكن أراد أن يجعلها معادلا فنيا قصصيا ، لا يخلو فيها تحقق الغفران المرجو من عقبات يشيب لها الولدان ، وتتعرض خلالها صكوك التوبة للضياع والفقدان ويحل اليأس محل الأمل في كثير من مراحل الطريق ويحقق التشويق والاثارة القصصية هدفها الفني حتى يتحقق التطهير في نهاية المطاف بالخلاص والغفران .
وتبدأ القصة باستشعار ابن القارح للبعد الزمني الطويل ليوم الحشر "في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة " ويشتد عليه الظمأ، وينظر في كتاب أعماله حين يقدم له فيجد حسناته قليلة متفرقة تفرق النبات الضئيل في العام الجديب وفي آخرها أمل للتوبة كأنه مصباح راهب رفع لسالك السبيل ، ويقيم ابن القارح في الحشر زهاء شهرين يخاف بعدها من الفرق في العرق فيبحث عن حيلة للخروج من الموقف ، ويفكر ؤ كتابة قصيدة يمدح بها رضوان خازن الجنة ، فيكتبها وينشدها على مقربة منه فلا يلتفت اليه فيظن أن القافية لم تعجبا فينتظر نحو عشرة أيام أخرى ليكتب قصيدة جديدة في مدح رضوان على قافية مغايرة فيكون مصيرها كمصير الأولى ، ويجرب على كل الأوزان والقوافي دون فائدة وأخيرا يصرخ في رضوان مزهرا له أنه أنشد على مسامعه عشرات القصائد في مدحه لينجيه من العطش فلم يستجب له ، ويسأله رضوان "وما الأشعار؟ فإني لم أسمع بهذه الكلمة قط إلا الساعة".
ويحاول أن يشرح له طريقة العرب في استمالة النفوس عن طريق الشعر فلا يجد لديه أذنا صدغية .
ويتركه الى خازن آخر من خزنة الجنة يقال له " زفر " فيجرب معه قصائد المديح دون جدوى ويقول له زفر عن شعر المديح : "أحسب هذا الذي تجيشني به قرآن إبليس المارد ولا ينفق على الملائكة