تبدو "رسالة الغفران" مغرية بقراءة تأويلية، فقد كتبها المعري (363 ـ 449 هـ ) نحو عام 422 هـ وهو في الخمسين من عمره، جواباً على رسالة من ابن القارح يسأله فيها عن مسائل في الفقه والدين والمذاهب الشائعة في عصره، كما يسأله إن كان الله سيغفر له ما ارتكب من فواحش في عهد الصبا إبان تلقيه العلم في مصر، ويجيبه المعري برسالة غير عادية في بنيتها وطبيعتها، فهي تتألف من قسمين، قد يبدو القسم الثاني عادياً، لأنه يتضمن إجابات واضحة عن تلك الأسئلة، ولكن القسم الأول هو غير العادي، وفيه يبدأ المعري بالرد على ابن القارح ويثني على لغته وكلماته وبيانه، ويسأل الله أن يجعل له جزاء ذلك كله أشجاراً في الجنة، ويمضي فيصف أشجار الجنة وأنهارها وما فيها من نعيم، ثم يصور ابن القارح في الجنة وهو يلتقي الأدباء والشعراء واللغويين، ويدعو الجواري والقيان ليقمن الموائد ويعقدن مجالس اللهو والغناء، "إذ استحق تلك الرتبة بيقين التوبة، واصطفى له ندامى من أدباء الفردوس.. لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين" (ص 168 ـ 169).
واللافت للنظر هو ظهور المرأة في (رسالة الغفران) ظهوراً واضحاً، وبعيداً عن الأحكام السابقة، وعن آراء المعري في المرأة المطروحة مباشرة في أشعاره، سيحاول هذا البحث استجلاء صور المرأة في "رسالة الغفران"، وقراءتها قراءة حرة، للوقوف على تفكيره اللاواعي في المرأة:؟ كيف ظهرت المرأة في رسالة الغفران؟ ومن هن النسوة اللواتي ذكرهن فيها؟ وكيف صوَّرهن؟ وماذا تحمل هذه الصورة من آراء؟ وهل يتفق موقفه من المرأة في رسالة الغفران مع موقفه منها في أشعاره؟ وما الدلالات الخفية وراء ظهورها في رسالة الغفران؟ وما سر هذا الظهور الكثيف للمرأة وهل أكثر النساء كن في الجنة أم في النار؟ وما تأويل خروج بعضهن من ثمر الأشجار؟ وما تفسير انقلاب بعضهن عن الإوز؟ وما سر تلك المآدب والموائد ومجالس اللهو والطرب التي تعقدها الجواري والقيان؟
تتيح رسالة الغفران في الواقع دراسة موقف المعري من المرأة ما لا تتيحه أشعاره، لأنه في أشعاره يعبر عن آرائه ومواقفه صراحة، وبصيغة تقريرية، في حين لا يعبر بهذه الطريقة عن موقفه من المرأة في رسالة الغفران، ولاسيما في قسمها الأول، لأنه في هذا القسم يصور دخول ابن القارح إلى الجنة وتطوافه في أرجائها ولقاءَه الشعراء واللغويين وإقامتَه المآدب ومجالسَ الأنس والطرب والغناء، وإذا ابن القارح في رسالة الغفران بطل الغفران، ينطقه المعري بما يريد إنطاقه، من غير أن يتحمل هو مسؤولية ما يقول، وبذلك يطلق المعري لرغباته من خلال ابن القارح قدراً غير قليل من حرية القول والفعل، ويمارس من خلال شخصه معظم ما لم يكن يريد هو أن يمارسه في حياته، ولكن من غير أن ينقض مبادئه أو يخالفها، مما يدل على حضور وعيه، ولو بقدر.
ثانياً ـ نساء الدنيا:
والمرأة في الغفران على نوعين، نوع من نساء الدنيا، دخلن الجنة بعفو الله ورحمته، ونوع من حور العين في الجنة، خلقهن الله فيها ابتداء، أو انقلبن من طير أو نبات إلى جوار وقيان، ونساء الدنيا على أنواع، فمنهن نساء من الواقع، عشن في عصر المعري، أو عشن في عصور سابقة، ومنهن نساء ذكرن في الأدب، ولاسيما الشعر، وابن القارح يلتقيهن في الجنة، ويحاورهن، وبعضهن يذكرهن ذكراً ولا يظهرن، ومهما يكن فهن كثيرات كثرة واضحة.
فاطمة الزهراء عليها السلام ابنة محمد e.
في هول الحشر يلتقي ابن القارح علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويسأله أن يعينه، فيعتذر إليه، فيلتقي العترة المنتجبين من أتباع فاطمة، فيرجوهم أن يسألوها في أمره، إذ إنها تخرج بين حين وآخر من الجنة لتسلم على أبيها وهو قائم لشهادة القضاء، فيحدثها رجال في أمره أول خروجها، يرجونها أن تعجل في دخولـه الجنة، فتشير إلى أخيها إبراهيم، تطلب منه أن يعين ابن القارح على دخول الجنة، فيتعلق بركابه، حتى يبلغ رسول الله e، فيسأل ابنته فاطمة عنه فتخبره أن جماعة من الأئمة الطاهرين قد سألوا فيه، فينظر في أعماله، فيجدها قد ختمت بالتوبة، فيشفع له. (ص 256 ـ 261).
والموقف يدل على ما للسيدة فاطمة عليها السلام من دور فاعل لدى طرفين اثنين، الأول: والدها محمد رسول الله e، وهذا يدل على تكريم الرسول والإسلام للمرأة، والطرف الثاني الذي لفاطمة فيه دور فاعل هو اتباعها من الأئمة الطاهرين، وهذا يدل على ما كان للمرأة في الإسلام من دور تاريخي.
ويدل الموقف على تشيع أبي العلاء المعري لشيعة فاطمة دون شيعة علي، رضي الله عنهما، ومن المعروف أن الفاطميين حكموا حلب عهد المعري،وأن المعري كان فاطمي الهوى، وكان يقدر الوزير المغربي، وهو فاطمي، وقد حقد المعري على ابن القارح لما نمي إليه من هجائه الوزير المغربي، وقد أكد ابن القارح في رسالته للمعري أنه بريء مما نمي إليه.
خديجة بنت خويلد
وتظهر" مع فاطمة عليها السلام امرأة أخرى تجري مجراها في الشرف والجلالة" هي خديجة بنت خويلد " ومعها شباب على أفراس من نور" هم "عبد الله والقاسم والطيب والطاهر وإبراهيم بنو محمد e" (ص259) وليس ثمة دور في "رسالة الغفران" لخديجة رضي الله عنها غير ظهورها إلى جوار فاطمة، مما يؤكد تشيع المعري لفاطمة.
جارية تحمل ابن القارح زقفونة
ويأخذ ابن القارح في العبور على السراط، فيجد صعوبة، فتأمر السيدة فاطمة الزهراء إحدى جواريها أن تساعده، فيطلب منها أن تحمله "زقفونة"، وإذ تسأله كيف يكون ذلك يجيبها: "أن يطرح الإنسان يديه على كتفي الآخر، ويمسك الحامل بيديه ويحمله، وبطنه إلى ظهره" ثم تهبه تلك الجارية لتخدمه في الجنة (ص256 ـ 261).
ومثل هذا الحمل من الجارية لابن القارح عادي، وقد استشهد عليه المعري ببيتين من الشعر، وهونوع من الحمل يعرفه المرضى والعجائز والشيوخ، ولعل المعري خبره وهو العجوز الأعمى، فلم يجد غيره وسيلة لعبور السراط.
وهذا الحمل يدل على أن المرأة هي السبيل إلى عبور السراط، أي تحقيق الخلاص، وهو خلاص لا يمكن أن يوصف بغير النقاء والبراءة، ولا يمكن أن يدل على شيء من رغبة جسدية، وما أشبه الجارية وهي تحمل ابن القارح، وقد لزم ظهرها ببطنه، بالأم وهي تحمل ابنها على ظهرها، وإلى اليوم ما تزال المرأة القروية تحمل وليدها على ظهرها وتمضي به إلى الحقل لتعمل فيه.
الخنساء
ويلتقي ابن القارح في أقصى الجنة بالخنساء وهي في المطَّلع تطل على جهنم لترى أخاها صخراً "كالجبل الشامخ والنار تضطرم في رأسه" (ص 308) مصداقاً لقولها فيها:
وإن صخراً لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
وفي هذا الموقف ما يدل على قناعة المعري بأنه الشعر نبوءة في الدنيا تتحقق في الآخرة، كما يدل على تحميل الخنساء مسؤولية تلك الصورة التي تحققت في الآخرة، ولعل في ذلك شيئاً من الكراهية للخنساء لفرط بكائها على أخيها صخر، مما يتفق وقناعة المعري بأن الموت غاية كل حي ولا ضرورة لفرط البكاء، وهو ما يؤكده قوله الشهير:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شادي
وهذا الموقف ليس عدائياً من المرأة، إنما هو موقف لا شعوري يكره فرط البكاء والحزن
مغنيات من العصر العباسي
ويرى ابن القارح "أسٍراب قيان قد حضرن مثل: بصبص ودنانير وعنا (ص 273) ثم يعلم أن "الجرادتين" في أقصى الجنة، فيطلب حضورهما، "فيركب بعض الخدم ناقة من نوق الجنة، ويذهب إليها على بعد مكانهما، فتقبلان على نجيبين أسرع من البرق اللامع، فإذا حصلتا في المجلس حياهما وبش بهما، وقال: كيف خلصتما إلى دار الرحمة بعدما خبطتما في الضلال؟ فتقولان: قُدِرَتْ لنا التوبة ومتنا على دين الأنبياء المرسلين" (ص 273-274) وهؤلاء القيان عشن في العصر العباسي، وفي دخولهن الجنة تقدير من المعري للمرأة المغنية وتأكيد لقبول التوبة.
امرأتان قبيحتان من حلب
ويخلو ابن القارح في الجنة بحوريتين، يرتشف رضابهما، ويتغنى بطيبه، ويذكر أبياتاً في الرضاب لأمرئ القيس حيث يقول:
كأن المدامَ وصوبَ الغمامِ
وريحَ الخَزامى ونشرَ القَطَر
يُعَلُّ به بَرْدُ أنيابِها
إذا غرَّدَ الطائرُ المستحرِ
وهو يشفق على امرئ القيس لأنه لم يذق مثل رضابهما، ثم تخبره إحداهما أنها تدعى حمدونة، وكانت تسكن في باب العراق بحلب، وكان أبوها صاحب رحى، وقد تزوجها رجل يبيع السقط، فطلقها لرائحة كرهها في فمها، وكانت من أقبح نساء حلب، على نحو ما تعترف هي نفسها، وقد عرفت ذلك، فزهدت في الدنيا، وتوفرت على العبادة، وأكلت من مغزلها ومردنها، فصيرها الله إلى ما هي عليه في الجنة. (ص 286 –287).
فالمعري ينتصف للمرأة القبيحة الكريهة الفم الفقيرة، كما ينتصف للمرأة الزاهدة العابدة العاملة التي تأكل من تعب يمينها، فيجعلها تدخل الجنة، فتصبح واحدة من حور العين، وتحظى بزوج مثقف يقدر جمالها مثل ابن القارح. والمعري بذلك يقدر المرأة لتقواها ولعملها، ولا يخفض من شأنها عنده فقرها أو ضعة مكانتها الاجتماعية أو قبحها، بل ذلك كله مما يشفع لها عنده.
أما المرأة الثانية فتدعى "توفيق السوداء" وكانت تخدم في دار العلم ببغداد على زمان أبي منصور محمد بن علي خازن دار العلم، وكانت تخرِج الكتب إلى النُّسَّاخ (ص 287).
والمعري بذلك يمجد أيضاً عمل المرأة ولاسيما في مجال العلم، وهو يقدرها على الرغم من قبحها الذي يدل عليه اسمها.
نساء من عالم الأدب
وتغني إحدى القيان أبياتاً للشاعر جران العود، فتجيد، وإذ يعجب القوم لغنائها تلتفت لتخبرهم أنها " أم عمرو" التي ذكرت في معلقة عمرون بن كلثوم، حيث يقول (ص 278):
تصد عنا الكاس أم عمرو
وكان الكأس مجراها اليمينا
وما شر الثلاثة أم عمرو
بصاحبك الذي لا تصحبينا
ويسألها القوم لمن البيان، فتذكر أنها كانت تسقي مالكاً وعقيلاً ندماني جذيمة الأبرش، ولقيهما عمرو بن عدي وهو ابن أخت جذيمة، فتصدت عنه ولم تصب لـه، فقال البيتين، ثم تضيف قائلة: "فلعل عمرو بن كلثوم حسَّن بهما كلامه، واستزادهما في أبياته" (ص278).
والمعري يصدق كلام القينة وينكر أن يكون البيتان لعمرو بن كلثوم على الرغم من ورودهما في معلقته، مما يدل على احتكامه إلى العقل وعدم اطمئنانه إلى المنقول والمتوارث، ومما يدل أيضاً على صدق المرأة عنده.
نساء يذكرن ولا يظهرن
ويطل ابن القارح على الجحيم فيرى عدي بن ربيعة المهلهل، فيشفق عليه لدخوله النار، ويؤكد له أنه كلما أنشد أبياته في ابنته اغرورقت من الحزن عيناه بالدموع، (353) وكان المهلهل قد زوج ابنته لرجل من حي جنب وهو حي وضيع من أحياء بني مذحج، ومن أبياته قوله:
أنكحها فقدها الأراقم في
"جنب"، وكان الحباء من أدم
ليسوا بأكفائنا الكرام ولا
يغنون من عيلة ولا عدم
وهذا الموقف يؤكد اشفاق المعري على المرأة وإنكار زواجها ممن هو ليس بكفء له.
ويلتقي النابغة الذبياني، فيسأله: (ص 204ـ 205) "كيف حسَّن لك لبك أن تقول للنعمان بن المنذر:
زعم الهمام بأن فاها بارد
عذب إذا ما ذقته قلت أزدد
زعم الهمام ولم أذقه بأنه
يشفى ببرد لثاتها العطش الصدي
فيقول النابغة: "..ذلك أن النعمان كان مستهتراً بتلك المرأة، فأمرني أن أذكرها في شعري، والأبيات داخلة في وصف الهمام، فمن تأمل المعنى وجده غير مختل".
والمعري هنا يرى أن بعض الوصف قد لا يكون على الرؤية والتجريب وإنما على التصور والسماع، وهو لا ينكره، بل يستجيده، ولعل هذا الرأي يتفق وعاهة العمى لدى المعري، لعل فيه دفاعاً غير مباشر عن نفسه.
ويشير المعري إلى "أم حصن" التي ذكرها النمر بن تولب في شعره، حيث قال:
ألمَّ بصحبتي وهم هجوع
خيال طارق من أم حصن
لها ما تشتهي: عسلا مصفى
إذا شاءت وحوَّارى بسمن
ثم يبدل اسمها مرات كثيرة من أم حصن إلى أم حفص إلى أم جزء إلى أم حرب إلى أم صمت إلى أم شث إلى أم شح وهكذا حتى يستعرض الألفباء كلها حتى الياء، وفي كل مرة يأتي في البيت الثاني بروي جديد حتى يتم الألفباء كلها، مظهراً مقدرة لغوية عجيبة (ص 154 ـ 164).
وهكذا يستثير اسم المرأة لدى المعري ذاكرة لغوية فذة، فكأن المعري يتعامل مع الكون كله من خلال اللغة.
ويلتقي حسان بن ثابت، فيسأله عن قوله:
كأن سبيئة من بيتِ رأس
يكون مزاجَها عسلّ وماءُ
على أنيابها أو طعمَ غضٍّ
من التفاح هصَّره اجتناء
"ويحك؟ ما استحييت أن تذكر مثل هذا في مدحتك رسول الله e وسلم"، فيقول: "إنه كان أسجع خلقاً مما تظنون، ولم أقل إلا خيراً لم أذكر أني شربت خمراً، ولا ركبت مما حظر أمراً، وغنما وصفت ريقَ أمرأة، يجوز أن يكون حلاً لي، ويمكن أن أقوله على الظن" (ص 234 ـ 235).
والمعري يبرئ ذلك حسان بن ثابت، ويرى أن ذكر الريق ليس بضائر، وأنه ليس فاحشة كشرب الخمر أو ارتكاب محرم، وهو يبحث عن مسوغ للغزل في الإسلام ويريد أن يؤكد أن الإسلام لا يحرم الشعر ولا يمنعه، وهو يدل أيضاً على فهمه لطبيعة الشعر، فهو إما أن يكون تعبيراً عن واقع وهذا الواقع مما هو حلال ومشروع، وإما أن يكون تعبيراً عن خيال.
ويذكر ابن القارح أبياتاً للنابغة الجعدي، يصف فيها الرضاب، ويعلق عليها المعري، فيقول: "أين طيبُ هذه الموصوفة من طيب مَن تشاهده من الأتراب والعُرُب؟ كلا والله، أين الأهل من الغُرُب؟ إنها لتفضُل على تلك، فضلَ الدُّرَّة المختزنة على الحصاة الملقاة، والخيرات الملتمسة على الأعراض الملتقاة (ص221).
وواضح تفضيل المعري فم المرأة في الجنة على فم المرأة في الدنيا، ويلاحظ إلحاح المعري في رسالة الغفران على الرضاب والفم، وعدم ذكره أي شيء آخر مما يتعلق بالمرأة كالنهد أو الردف أو العطر، ولعل في هذا ما يدل على عفته، وبعده عن الفواحش.
ويؤكد ذلك مشهد يغضب فيه النابغة الجعدي من الأعشى وينكر عليه دخوله الجنة، لأنه أفحش في أبيات يذكر فيها دخوله على امرأة ومداعبته لها، ومنها قوله: (ص230)
فدخلت إذ نام الرقي
ـب فبت دون ثيابها
فثنيت جيد غريرة
ولمست بطن حقابها
إلا أن المعري يجعل صاحبه ابن القارح يمتع نفسه بذكر الغواني والغزل، وهي متعة لغوية برئية، قوامها الكلام والخيال، كما يجعله يمتع نفسه بسماع الغناء، ورشف الرضاب، ولا يسوقه إلى شيء من فحش، ثم يجعله يلتقي بحورية خصها الله به من نساء الجنة.
ثالثاًـ الحور العين في الجنة:
والحور العين في الجنة على أنواع أيضاً، فمنهن من يخرجن من ثمر في شجر ومنهن من ينقلبن عن طير، ومنهن من هن نسوة ابتداء، وابن القارح يلتقي الجميع.
حور ينقلبن عن إوز
وبينما ابن القارح في روضة من رياض الجنة يمر رفٌّ من إوز الجنة، فلا يلبث أن ينزل على تلك الروضة.. فينتفض فيصرن جواري كواعب يرفلن في وشي الجنة، وبأيديهن المزاهر وأنواع ما يلتمس به الملاهي"، ثم يطلب من إحداهن أن تغني بيتاً للنابغة الذبياني فتغنيه على ألحان مختلفة، وهي في كل لحن تجيده، فتثير دهشة ابن القارح. (ص212 ـ 214) ويسألها "فمن أين لك هذا؟" فتجيبه: "وما الذي رأيت من قدرة بآرائك؟ إنك على سيف بحر؟ لا يدرك له عبر" (ص215) ويعرض ابن القارح على نابغة بني جعدة أن يختار واحدة من حور العين اللواتي انقلبن عن الإوز، لتذهب معه إلى منزله، فيعترض على ذلك لبيد بن ربيعة، حتى لا يقال عنهم أزواج الإوز (ص234).
والمعري هنا متعلق بالصوت والغناء، والإزو يهبط إليه من السماء، كالحلم، وهو عطاء من الله، ويعلق على ذلك فيقول: "فتبارك الله القدوس، نقل هؤلاء المسمعات من زي ربات الأجنحة إلى زي ربات الأكفال المترجحة، ثم ألهمهن بالحكمة حفظ أشعار لم تمرر قبل بمسامعهن، فجئن بها متقنة محمولة على الطرائق ملحنة، مصيبة في لحن الغناء، منزهة عن لحن الهجناء.. فسبحان القادر على كل عزيز، والمميز بفضله كل مزيز" (ص226).
ويدل هذا الموقف على خيال خصب مبدع، فقد ورد في الشعر العربي تشبيه المرأة بالغزالة وبقر الوحش كما ورد تشبيه النهدين بالرمان والخدين بالتفاح مثلاً، ولكن لم يرد في الشعر العربي تشبيه المرأة بالتفاح أو السفرجل أو الرمان أو الإوز، ولم يسبق أحد إلى القول بخروجها من ثمر أو انقلابها عن طير.
وقد ورد في الأساطير اليونانية تحول الفتى نرسيس إلى زهرة فقد أدام النظر إلى صورته في صفحة بركة إلى أن سقط في الماء ونبت في موضعه زهرة حملت اسمه، كما ورد فيها تحول زيوس إلى طائر البجع ليزور بعض نساء الأرض وهن نائمات.
وفي اعتراض لبيد دعابة جميلة، لا تقدح في دين المعري، وهي محض ممازحة بريئة، ولعل المعري لم يرد لصاحبه ابن القارح الزواج من امرأة منقلبة عن إوز ليظل منسجماً مع مذهبه في الكف عن لحم الحيوان، والطير لا يعدو أن يكون ضرباً من الحيوان، وقد روي أنه وصف للمعري في مرضه الدجاج، فأبى، ويؤكد ذلك أنه يخبئ لابن القارح زوجة تخرج له من نبات على نحو ما يرد في المشهد التالي.
حور يخرجن من ثمر العفز أو من سفرجل
ويذكر ابن القارح وهو في الجنة أبياتاً للخليل تصلح للغناء، "فينشئ الله القادر بلطف حكمته شجرة من عفز، والعفز الجوز، فتونع لوقتها، ثم تنفض عدداً لا يحصيه إلا الله سبحانه، وتنشق كل واحدة منه عن أربع جوار يرقن الرائين ممن قرب والنائين، يرقصن على الأبيات المنسوبة إلى الخليل" (ص279)
وخروج الجواري من النابت هو دليل براءة ونقاء وطهر، ودليل بعد عن الحيوانية والغرائز الدنيا، وهو ما يتفق وتحريم المعري لحم الحيوان على نفسه.
ويمر ملك من الملائكة فيسأله ابن القارح عن الحور العين، فيخبره أنهن " على ضربين، ضربٌ خلقه الله في الجنة لم يعرف غيرها، وضرب نقله الدار العاجلة لما عمل الأعمال الصالحة"، ثم يسأله عن الضرب الأول، فيطلب منه أن يتبعه/ "فيتبعه، فيجيء به إلى حدائق لا يعرف كنهها إلا الله، فيقول الملك خذ ثمرة من هذا الثمر فاكسرها فإن هذا الشجر يعرف بشجر الحور، فيأخذ سفرجلة أو رمانة أو تفاحة أو ما شاء الله من الثمار، فيكسرها، فتخرج منها جارية حوراء عيناء تبرّق لحسنها حوريات الجنان، فتقول: من أنت يا عبد الله؟ فيقول: أنا فلان ابن فلان، فتقول: إني أمنى بلقائك قبل أن يخلق الله الدنيا بأربعة آلاف سنة، فعند ذلك يسجد إعظاماً لله القدير... ويخطر في نفسه وهو ساجد، أن تلك الجارية على حسنها ضاوية فيرفع رأسه من السجود وقد صار من ورائها ردف يضاهي كثبان عالج وأنقاء الدهناء.." فيسأل الله تعالى أن تقصر قليلاً، فيقال له: "أنت مخير في تكوين هذه الجارية كما تشاء، فيقتصر من ذلك على الإرادة" (ص 287 ـ 289).
وهذا المشهد يدل على ذكاء المعري وخياله الخصب في تصوير المرأة تخرج من ثمرة ويتفق ذلك وموقفه من الحيوان المتمثل في امتناعه عن تناوله واكتفائه بالنبات، كما يدل على قوله بحرية الإنسان الجزئية داخل القدر الإلهي الأكبر والأشمل، فابن القارح محكوم بالزواج من هذه الحورية التي تنتظره قبل أن يخلق الله الدنيا بأربعة آلاف سنة، ولكنه حر في تكوينها كما يشاء، كما يحمل هذا المشهد أول مرة في الرسالة الإدراك الحسي لجسد المرأة ولكن من غير إفحاش.
حية يمكن أن تنقلب إلى واحدة من حور الجنة
ويؤكد تعلق المعري بالنبات وعزوفه عن الحيوان المشهد التالي:
ويدخل روضة مونقة فيرى حية تخبره أنها عاشت في دار الحسن البصري ثم انتقلت إلى دار أبي عمرو بن العلاء ثم إلى دار حمزة بن حبيب في الكوفة وقد سمعت عنهم القراءات وهي تحفظها وترويها، ثم تعرض على ابن القارح أن تخلع إهابها لتصبح أحسن غواني الجنة، وتغريه برضابها وتدعوه إلى اللذة وتعده بالود والوفاء، ولكنه يذعر منها ويذهب مهرولاً في الجنة (376 ـ 372).
ويلاحظ هنا دخول الأفعى الجنة، وما هي بالأفعى الوحيدة التي تدخل الجنة إذ ثمة أفعى أخرى وهي الأفعى التي ذكرها النابغة في شعره والتي أمنها أحد الرعاة على حياتها فكانت تعطيه كل يوم ليرة ذهبية، ثم غدر بها ولده فقطع ذيلها ولدغته فمات، ولما دعاها الراعي إلى ما كانا عليه من عهد اعتذرت.
وهكذا تدخل الأفعى عند المعري الجنة، تدخلها لوفائها تارة ولعلمها تارة أخرى، ولا يشير المعري إلى ما ورد في الإصحاح الثالث من سفر التكوين من إغواء الأفعى لحواء كي تأكل من ثمر الشجرة المحرمة ثم ما كان من إغواء حواء لآدم، بل إنه يناقض ما تذهب إليه التوراة من تحميل الأفعى وزر خروج آدم من الجنة، وما تذكره أيضاً من عداء الإنسان لها وبغض المرأة لها إذ يجعلها مرشحة للانقلاب إلى واحدة من الحور.
العودة إلى المرأة الخارجة من سفرجل
وما إن يغادر ابن القارح الأفعى حتى يلتقي "الجارية التي خرجت من تلك الثمرة، فتقول: إني لأنتظرك منذ حين" ثم تعتب عليه لبعده عنها، فيتعذر إليها ويدعوها إلى كثبان الجنة وهي من عنبر ، فتسأله إن كان بنفسه أن يفعل ما فعله امرؤ القيس مع صاحباته في دارة جلجل، فيعجب كيف عرفت ما يدور في خلده، وسرعان ما ينشئ الله حوراً عيناً يسبحن في نهر من أنهار الجنة، فيعقر لهن ناقته، فيأكل ويأكلن (ص 372 ـ 373).
وهكذا يطمئن ابن القارح إلى الجارية التي خرجت من ثمرة، وبها يأنس، ما يتفق ومذهب المعري.
ثم إنه "يذكر ما يكون من فتور في الجسد من المدام، من غير أن يُنْزَفَ له لُبٍّ، فإذا هو يخال في العظام الناعمة دبيب نمل، ويتكئ على مفرش من السندس، ويأمر الحور العين أن يحملن ذلك المفرش فيضعنه على سرير من سرر أهل الجنة، ثم يحمل على تلك الحال إلى محله المشيد بدار الخلود" (ص 377 ـ 378).
رابعاً ـ خاتمة:
وهكذا تنتهي رحلة ابن القارح في الجنة وقد بدأت بلقاء السيدة فاطمة وقد شفعت له لدى والدها محمد ( وسلم فدخل الجنة، وانتهت بلقاء الزوجة المقدرة له قبل أن يخلق الله الدنيا بأربعة آلف سنة، وهي جارية تخرج له من ثمر.
وفي هذه الرحلة يلتقي نساء كثيرات، بعضهن من نساء الدنيا وبعضهن ممن ذكرن في الشعر وأخريات خلقهن الله ابتداء في الجنة وبعض هؤلاء يخرجن من ثمر وبعضهن ينقلبن عن طير، وكلهن حسناوات جميلات، وأكثر ما يذكر من متعهن ارتشاف الرضاب واستماع الغناء، وهما متعتان بريئتان، فيهما قيم فنية عالية، ولعل هذا الإكثار من ظهور النساء والحور العين هو تأكيد غفران الله تعالى لابن القارح وقبوله توبته، وإظهار لما في الجنة من متع هي أرقى من متع الدنيا وأجمل، يؤكد ذلك تفضيل المعري دائماً رضاب الحور العين على رضاب النساء في الدنيا مهما بالغ الشعراء في تأكيد روعته، ولعل في ذلك الظهور الكثير للنساء في الجنة تعويضاً عن حرمان المعري من المرأة وإشباعاً لرغبته في لقائهن، وهو إشباع رفيع عماده اللغة والخيل، ولا دنس فيه.
وابن القارح يدخل الجنة بشفاعة امرأة ثم يسير على السراط تحمله امرأة ثم يلتقي امرأة كانت تنتظره قبل أن يخلق الله الدنيا بأربعة آلاف سنة، وهذا يعني أن المرأة هي الخلاص وهي ضرورة وقدر، والجميل أنه ليس فيها شيء من شر، بل هي الخير كل الخير، فهي في كل الأحوال تحفظ الشعر وترويه وتجيد الغناء وهي عذبة المقبل ذكية رائحة الفم وهي في كل الأحوال عيناء جميلة، ولعل هذه هي الصورة التي كان يمني المعري نفسه بها، ولم يجدها في الدنيا، وأنى له أن يجدها، وهو الذي كان يريدها خارجة من ثمرة، لم تلدها أم ولم ينجبها أب.
وهذا اللقاء بالنسوة يتدرج في خط صاعد من لقاء نساء الدنيا إلى لقاء الحور العين الخارجات من ثمر أو المنقلبات عن إوز، ويعترضه للتشويق لقاء أفعى عالمة تعد ابن القارح باللذة والوفاء، ولكنه يفر منها ليلتقي صاحبته الموعودة به والخارجة من سفرجل، وفي هذا ما يدل على بناء سردي فيه تشويق وإدراك لعناصر القص والتنوع في المواقف والشخصيات وما قد يعترض ذلك من مصاعب ثم ما يكون من حلول، وللبعد عن المبالغة لا نصف المعري بالروائي والقاص، لكن يمكن وصفه بالسارد المتقن لفنه والمدرك لعناصره.
يؤكد ذلك اتخاذ المعري من ابن القارح بطلاً يدخل الجنة ويلتقي الأدباء والشعراء واللغويين فيها وهو ما ساعده على التعامل مع موضوعه بحرية، كما وفر له إمكان تحميل ابن القارح الأفكار التي يرغب، ووضعه في المواقف التي يريد وتعبيره عن الأفكار التي يشاء من غير أن يتحمل المعري تبعة ذلك كله، ومن غير أن يقع في التوضيح والمباشرة.
وابن القارح لا يدخل النار، ولا يمر بها ولا يكتوي بها ثم ليخرج منها، بل يدخل الجنة فوراً بعد شفاعة السيدة فاطمة لـه لدى أبيها، وفي هذا تأكيد لقبول توبة ابن القارح وغفران الله تعالى له، لعل الرسالة سميت رسالة الغفران تأكيداً لذلك.
وإذا كان ابن القارح لا يدخل النار فإنه يطل عليها من مكان عال ويرى بعض الشعراء ويكلمهم عن بعد، وهم غير كثير، إذ لا يزيد عددهم على ستة عشر شاعراً، وليس فيهم شاعرة، وابن القارح يكلمهم من بعيد، ولا يطيل في الحديث أو الوقوف، وسرعان ما يرجع إلى الجنة، وفي هذا ما يدل على أن المعري كان شفوقاً بابن القارح وبالشعراء، وهو لا يريد تصوير مشاهدة العذاب أو الإيغال فيها حتى لا يؤلم القارئ، ولعله هو نفسه لا يحب الألم والتعذيب، إنما يريد أن يمتع نفسه والقارئ ببعض نعيم الجنة تأكيداً لمعنى الغفران.
والمعري يعلي من شأن المرأة، ويقدرها، فهي الشفيع وهي الوسيلة إلى الجنة وهي الحاملة على السراط وهي المطربة بصوتها وغنائها وهي المثقفة الراوية للأشعار، وتوبتها مقبولة وبها تدخل الجنة حتى لو كانت في الدنيا من القيان المغنيات أمثال دنانير وعنان والجرادتين، ويزداد تقدير المعري للمرأة إذا كانت في الدنيا مظلومة، يظلمها أبوها وزوجها بسبب قبحها وريح فمها، فإذا به ينصفها، فالسوداء في الدنيا بيضاء في الجنة كالكافور، وذات الفم الكريه الرائحة في الدنيا هي من أكثر الحور طيب رائحة فم، وإنه ليبكي لدى سماعه المهلهل يذكر زواج ابنته من رجل ليس لها بكفء، وإذا كان في النار بعض النسوة فهن من نساء الملوك، وابن القارح لا يراهن، ولا يرى ما يلقين من عذاب، كأن المعري لا يريد أن يصف عذاب المرأة، أو كأنه لا يتصور العذاب لاحقاً بالمرأة، ولكن ابن أبي مقبل هو الذي يذكر بإيجاز شديد ما شاهدوه من عذاب بعض النسوة في الحشر، حيث يقول: "والنسوة ذوات التيجان يُصَرْنَ بألسنة من الوقود، فتأخذ في فروعهن وأجسادهن" (ص247).
وأكثر المتع التي يصورها المعري في الجنة هي الطرب والغناء، ثم ارتشاف الرضاب ووصف الريق شعراً، حتى كأنه يرتوي لذكر الرضاب في الشعر، فيكثر من الاسشتهاد به وضرب الأمثلة عليه، ولكنه في الأحوال كلها يفضل رضاب الحور العين في الجنة، وهو يقبل من النابغة الذبياني وصفه زوجة النعمان لأن ذلك كان بطلب من زوجها، ولأن النابغة كان متحرزاً في الوصف، كما يقبل من حسان ذكره الغزل والنسيب في مدح رسول الله لأن الرسول نفسه لم يعترض عليه، ويعلل ذلك الغزل بأحد أمرين، الخيال أو الحلال، وهو لا يذكر عدا ذلك شيئاً مما يتعلق بالمرأة من متع ولذائذ، مؤكداً عفته ونقاءه، ويشهد على ذلك غضب النابغة الجعدي على الأعشى، لما وجد في شعره من إفحاش في الغزل.
ويثير ذكر المرأة لدى المعري ذاكرة لغوية عجيبة، إذ يكفي أن يجيء ذكر أم حصن في قافية أحد الأبيات، حتى يمضي ليستعرض حروف الألفباء كلها ويعرض الاحتمالات التي يمكن أن يجري عليها الروي من الهمزة إلى الياء، وهو في المواقف كلها يكثر من ذكر قضايا اللغة والشعر ويكثر من شواهد القرآن والشعر، مما يدل على خبرة أدبية لغوية هي عند المعري أكبر من خبرة الحياة.
ولذلك ليس غريباً أن يجد المرء المعري في أحد المواقف يفضل الشعر على الولد، وبالأحرى القصيدة على البنت، لأن هواه مع الأدب، ففي أحد المواقف يلتقي ابن القارح الشماخ بن ضرار، ويستنشده قصيدتين من شعره، فيعتذر إليه إذ نسيهما، فيقول له ابن القارح "لفرط حبه الأدب وإيثاره تشييد الفضل: "أما علمت أن كلمتيك أنفع لك من ابنتيك؟ ذكرت بهما في المواطن، وشهرت عند راكب السفر والقاطن، وإن القصيدة من قصائد النابغة لأنفع له من ابنته عقرب ولعل تلك شانته وما زانته، وأصابها في الجاهلية سباء، وما وفر لها الحباء" (ص 238).
والمعري في هذا الموقف لا يناقض مواقفه السابقة من المرأة، بل يتكامل معها، فهذا الموقف الوحيد من المرأة في رسالة الغفران، هو تعبير عن وعيه وفلسفته وموقفه الذي اتخذه لنفسه في الحياة، وأسقطه هنا على ابن القارح، والمواقف السابقة في رسالة الغفران هي تعبير عن حلم ورغبة داخلية مقموعة أو مكبوتة أو مقهورة، أشبعها المعري نفسه من خلال ابن القارح، الذي اتخذ منه بطل الغفران.
وبذلك تتكامل المواقف، ويؤكد بعضها بعضه الآخر، فما كان من لقاء بالمرأة في الجنة وحديث معها أو عنها هو إشباع لرغبة مكبوتة، هو الأكثر، وما كان من كلام على تفضيل الشعر عليها هو تعبير عن موقف في الحياة الدنيا لم يحد عنه المعري، وهل المطلوب منه أن يحرم نفسه من المرأة كما حرم نفسه منها في الدنيا؟ أليس من الطبيعي أن يطلق لخياله العنان في الجنان؟
لقد عاش المعري عف الإزار، مكتفياً من الطعام بالعدس، منصرفاً إلى العلم والتعليم، لا يتقاضى من أجر، كما عاش رهين محابسه الثلاثة، العمى والبيت والجسد، إذ لم يغادر مسكنه في النصف الثاني من حياته، كما كان يحس بروح حبيسة الجسد يريد لها الانطلاق في ملكوت المعرفة والرحمة الإلهية، ولم يكن عنده جارية ولا زوجة ولا ولد، ولم يعرف من المرأة سوى لمسات أمه، كما عاش المعري في قرية صغيرة، مجتمعها مجتمع زراعي متخلف، معظم الرجال فيها أميون، والنساء لا عمل لهن سوى مساعدة الرجل في الزراعة والنول والغزل، وفي هذا المجتمع وفي ذاك الموقف من المجتمع والحياة كانت رحلة أبي العلاء المعري إلى الجنان، وفي مثل ذلك المناخ كان موقفه من المرأة في رسالة الغفران.
والمرجو بعد ذلك كله ألا ينظر إلى موقف المعري من المرأة من منظور القرن الحادي والعشرين ومشكلات المرأة المعاصرة وقضايا تحررها وعملها، وألا ينظر إلى موقفه من منظور الإنسان المعاصر الطامع في المال والراكض وراء التجارة والغارق في أشكال لا حصر لها من متع التلفاز والمحطات الفضائية وعروض الأزياء وأفلام الجنس والإباحة وصخب المدن والعواصم الكبيرة.
والمعري على كل حال ما يفتأ يذكر الله في كل حالة وعند كل موقف ومع كل خطوة، وهو ويمده وينزهه ويحمده ويثني عليه، وما يفتأ يذكر العفو مع التوبة، مما يؤكد قوة إيمانه، وقوة تمسكه بالتوبة، ويقينه بالغفران.