يسلط هذا البحث الضوء على التفكير اللغوي عند أبي العلاء المعري. من خلال قراءة في رسالة الغفران، وبالرغم من أن معظم البحوث التي تصدت لهذه الرسالة ركزت بشكل رئيسي على الجوانب المتعلقة بالشعر والفلسفة والنقد، فإننا آثرنا في دراستنا أن ينصب جل اهتمامنا على الجانب اللغوي لما لهذا الجانب من أهمية بالغة ليس في الرسالة فحسب، وإنما في تفكير المعري كله، وهو الذي قيل فيه: " ما أعرف أن العرب نطقت بكلمة لم يعرفها المعري" و "الشيخ بالنحو أعلم من سيبويه، وباللغة من الخليل"، وهو في رسالة الغفران لم يترك لفظة غريبة إلا استعملها، ولا علامة إلا شرحها.
لقد تتبعنا جل المسائل اللغوية في رسالة الغفران فوصفناها ووصفنا الطريقة التي تعاطى بها المعري مع المسألة، وتوصلنا إلى نتيجة مفادها أن المعري لم يكن شاعراً بالدرجة الأولى كما عرف عنه، ولم يكن فيلسوفاً بامتياز كما علم من شعره، لقد كان لغوياً قبل كل شيْ وعبر عبقريته اللغوية عبرت معظم أعماله الإبداعية الأخرى.
----------------------+++++++++++------------------------
لا تعد رسالة الغفران رائعة من روائع أبي العلاء المعري وحسب، بل من روائع الأدب العربي والعالمي أيضاً. وإذا كانت هذه الرسالة تشكل نصاً رحباً ومفتوحاً لمختلف أنواع القراءات الفلسفية والفكرية ... والأدبية والنقدية فإن الموضوعية تقتضي أن يختار الباحث ميداناً واحداً من بين هذه الميادين المعرفية التي تزخر بها رسالة الغفران. لكن هذه الموضوعية سرعان ما تنحسر أمام ذاتية الاختيار، فاختيار موضوع واحد من الغفران كي يكون مادة للتحليل والبحث، لا يعني البتة جوهرية هذا الموضوع على حساب الموضوعات الأخرى، لأن الشعر جوهري، والأدب جوهري، والنحو وهكذا بالنسبة للنقد والقصِِ، إلخ. لذا فإن التخصيص قد يساعد المختص في تأمل جوهر الفكرة "المعرية" ونظن أنها – أي الفكرة- واحدة في الموضوعات جميعها مهما بدت مختلفة أو متباينة للوهلة الأولى.
ونحن عندما اخترنا المسائل اللغوية في رسالة الغفران مادة للدراسة، كنا نعلم أن الموضوع وعر المسالك أكثر من غيره، ولا تتأتى الوعورة من كون المعري أولى موضوع اللغة اهتماماً خاصاً ومتميزاً في كلامه، ولا من بثه المسائل اللغوية في كل أرجاء رسالته، ولا من شهرة المعري باطلاعه على غريب اللغة وحوشيها "ما أعرف أن العرب نطقت بكلمة لم يعرفها المعري"* بل – وبالإضافة إلى كل ما سبق – المسائل اللغوية ذاتها تحتاج إلى جهد كبير من أجل إحصائها أولاً، ومن أجل تنظيمها وتبويبها وتحليلها ثانياً، فمنها ما هو خاص بلغة المعري، ومنها ما هو متعلق بالنقد الأدبي، ومنها ما هو متصل بالقراءات والموسيقى والعروض، ومنها ماله علاقة بالشروحات اللغوية، أو بالخلافات بين النحويين. لقد رأينا أن أجدى ما يمكن أن نقوم به في هذا البحث، هو التوقف عند مجموعة من مجمل المسائل اللغوية المبثوثة في معظم صفحات الرسالة لتعرّف المعري اللغوي الذي قيل فيه : " الشيخ بالنحو أعلم من سيبويه وباللغة من الخليل."**
ثمة –في الحقيقة – معطيا ت كثيرة جعلت من أبي العلاء المعري ذلك الرجل العالم والشاعر والحكيم والأديب واللغوي، ومما لا شك فيه أن الوقوف عند هذه المعطيات ودراستها وتحليلها يساعد كثيراً في فهم الآثار العلمية الكثيرة التي تركها المعري، ولم يصل منها للأسف إلا القليل *** الذي زين خزانة الأدب العربي والعالمي.
ولا أظن أن الباحثين القدامى والمحدثين أهملوا جانباً من الجوانب الكثيرة التي كان لها أثر كبير على ثقافة المعري، فلقد تكلموا عن ولادة المعري ونشأته، وفقدانه للبصر، وتتلمذه على يد أبيه وغيره من تلامذة ابن خالويه، وعن ترحاله إلى طرابلس الشام وبغداد، واطلاعه على علوم الأقدمين من عرب وغير عرب. وتطرق الباحثون مرات عديدة إلى أثر العلوم اليونانية في ثقافة المعري، وتعلمه المسيحية واليهودية. فالمعري "يعرف الديانات والمعتقدات المختلفة، كما يعرف الفلسفة والتنجيم والتاريخ والتصوف، وما يطوى في ذلك من ثقافات يونانية وفارسية وهندية"(1).
لكن موضوعنا في هذه الدراسة لن يشمل هذه النواحي الفكرية الفذة التي ملأت الأزمنة، وما يزال الناس مشغولين بها حتى يوم الناس هذا. بل سيقتصر على قراءة صفة واحدة من صفات المعري، وهي ولوعه بإحصاء غريب اللغة وشرحه والتعليق عليه ومن ثم استخدامه بصورة لم يسبقه إليها أحد. ولعل هذه الصفة هي التي حضت الدارسين – على اختلاف مناهجهم – على البحث عن فكر أبي العلاء المعري المخبوء في تعقيد لغته، حتى قال أحدهم " وأبو العلاء يتكلف الغريب ويتعمده، ليصد عامة الناس وجها لهم، سواء في ذلك العلماء وغير العلماء، عن قراءته والظهور على ما فيه، وكأن أبا العلاء كان يكتب لهذا العصر الحديث الذي نحن فيه وللعصور التي ستليه، وكأنه كان يخشى على آثاره الأدبية أن يفهمها أهل زمانه فيفسدوها ويشوهوها ويحولوا بيننا وبين فهمها. وكأنه إنما أقام من الغريب وقواعد النحو والصرف والعروض والقافية طلاسم وأرصاداً شغل بها أهل عصره عن هذا الكنز حتى لا يصلوا إليه .وحتى تسلم لنا نحن خلاصته..."(2)
إن الثقافة اللغوية ساطعة كل السطوع في كل ما كتيه المعري (فالفصول والغايات) يزخر بالشروح اللغوية، و(عبث الوليد) يعج بالكلام على العروض والأوزان الشعرية والمسائل النحوية، وفي (رسالة الملائكة) يتوقف المعري طويلاً عند الفوائد اللغوية ولا تخلو (رسالة الصاهل والشاحج) من حديث لغوي على ألسنة الحيوانات ولعلنا لا نبالغ إذا زعمنا أن هذه الثقافة اللغوية هي التي جعلت رسالة الغفران – كبقية رسائل المعري – طويلة غنية، فالمعري في "الغفران" لم يترك لفظة غريبة إلا توقف عندها وفصل في شرحها حتى قيل فيه " هو البحر الذي لا ساحل له في اللغة"(3) وقيل أيضاً "سمع اللغة وأملى فيها كتباً، وله فيها معرفة تامة" (4) وكان "عالماً لغوياً شاعراً " (5) و"أحمد بن عبد الله بن سليمان أبو العلاء المعري اللغوي الشاعر (...) أخذ العربية عن أصحاب ابن خالويه ومحمد بن عبد الله بن سعد النحوي .. وتصانيفه في اللغة والأدب أكثر من مئتي مجلد (6) وإذا كانت رسالة الغفران تشمل موضوعات متشعبة ومتباينة، فإن الموضوع اللغوي يعد –برأينا- الأغزر والأهم في هذه الرسالة، ولعل بعض الباحثين المحدثين قد بالغوا كثيراً عندما عدوا أن الغرض الذي سعى إليه أبو العلاء في رسالته هو عرض الفوائد اللغوية، ولقد ذهب د. إبراهيم السامرائي إلى أبعد من ذلك حينما اعتبر أن أبا العلاء قد اتخذ لغرضه في عرض الفوائد اللغوية إطاراً أدبياً" يقوم على زيارته للنعيم وللجحيم وما يتصل بهذا من لوازم هي في جملتها من مشاهد العالم الآخر بنعيمه وجحيمه"(7) ومما تجدر الإشارة إليه ها هنا، هو أن الدكتور السامرائي، يخصص كتاباً كاملاً شاملاً للحديث عن المعري اللغوي، وينجح الباحث في وضع المعري في المكان المناسب بين علماء اللغة والنحاة، ويقر "أن أبا العلاء لغوي نحوي أديب ناقد أقل بضاعته الشعر الذي عرف فيه، ولاسيما في عصرنا هذا" (
ولكن لا ندري لماذا يضرب الدكتور السامرائي بهذا الإقرار عرض الحائط في قراءته لكتاب المعري (عبث الوليد) فمن يطلع على هذه القراءة التي قدمها الدكتور السامرائي سيجد أبا العلاء ضعيفاً في اللغة، هزيلاً في النحو، غير قادر على التمييز بين خطأ الناسخ وخطأ الشاعر، نظن –مع تقديرنا الكبير لأعمال هذا الباحث- أن الفرصة التي فاتت على الدكتور السامرائي بإعداد معجم المتنبي ومعجم الجاحظ ومعجم ابن المقفع، عوضها بإعداد سريع لكتاب حمل عنوان "مع المعري اللغوي" مما أدى بطبيعة الحا ل إلى هذا التباين في الرأي، فهو يعد المعري من النحويين المتقدمين تارة، ويعده من النحويين المتأخرين تارة أخرى عندما يتصدى لـ (عبث الوليد)، لذا فإن الموضوع اللغوي، وإن كان الأغزر والأهم والأول على رأي الباحثة الدكتورة عائشة عبد الرحمن، فإنه لا يعد بأية حال- غرض المعري من "الغفران" وإنني أميل في تقويم أهمية الموضوع اللغوي في رسالة الغفران إلى رأي الباحث الدكتور أمجد الطرابلسي الذي يقول في هذا السياق "إن كثرة الشروح اللغوية في "الغفران" وتنوع الطرق التي كان يتبعها المتنبي في خلق المناسبات لها، دليل على أن هذه الشروح لم تكن تأتي عرضاً أو اعتباطاً، وإنما كانت في نفسها غرضاً أساسياً من أغراض هذه الرسالة" (9).
وللاستدلال على كبر الحيز اللغوي في "الغفران" قمنا بعملية إحصاء بسيطة، فوجدنا أن الرسالة تتألف من أربعمائة وخمس وخمسين صفحة، خصص منها المعري اثنتين وثمانين صفحة للحديث عن المسائل النحوية وتأويل اللغويين على الشعراء، فيتعرض لأبي علي الفارسي، وأبي سعيد السيرافي، وابن دريد، والخليل، وسيبويه والفراء، وللمدرسة البصرية والكوفية، فتراه يسخر من قول هذا اللغوي، ويدحض رأي هذا النحوي، ورواية هذه المدرسة على تلك، ويغوص في مسألة خلافية، حتى ليكاد يشعر القارئ أنه بعد كثيراً عن الموضوع المطروح في الرسالة، ولعل هذه الاستطرادات اللغوية هي ما جعلت بعض النقاد يتهمون الرسالة بتشتت الفكر واضطراب السياق والمعري لم يكتف باستعراض أمثلة من الخلافات النحوية في هذه الصفحات الكثيرة المستقلة، بل تعرض في مواضع كثيرة إلى قضايا لغوية متفرقة، منها ما هو متعلق بالأوزان الشعرية، والموسيقى والعروض، والشروح اللغوية التي "تتوالى في جميع صفحات هذا الكتاب العجيب. فلا تكاد تمر لفظة إلا أسرع المعري إلى شرحها وتوضيحها، سواء كانت هذه اللفظة المفسرة من كلامه هو –وهو الأكثر الغالب- أم كلام منظوم أو منثور قد استشهد به"(10) وها هو ذ ا المعري في افتتاح رسالته يبدأ في شرح ألفاظه "يقول: اللهم يسر وأعن، وقد علم الجبر الذي أنزل إليه جبرائيل وهو في كل الخيرات سبيل، أن في مسكني حماطة، ما كانت قط أفانية (...) والحماطة ضرب من الشجر يقال لها إذا كانت رطبة أفانية فإذا يبست فهي حماطة" ويستمر في شرحه وتعليقه واستشهاده بالشعر، وهذا الضرب من الشرح متعلق بلغته الخاصة، أما فيما يتعلق بلغة غيره، فإنه لا يكف عن التعليق عليها أيضاً:
يا دار سلمى لا أكلفها إلا المرانة حتى تسأم الدنيا
عن طريق مشهد حواري يسأل فيه الشاعر عن قصده بالمرانة "ما أردت بالمرانة؟ فقد قيل إنك أردت اسم امرأة، وقيل هي اسم ناقة، وقيل : العادة"(11)
ومثل هذا الشرح كثير كما أسلفنا، لذا فإننا سنتوقف عند الجانب الآخر من الثقافة اللغوية لدى المعري ونقصد المسائل الخلافية في اللغة والنحو. وتأتي أولى هذه المسائل في اللقاء الذي تم بين ابن القارح والأعشى حيث يذكر هذا الأخير قصيدته التي يقول فيها:
ألا أيهذا السائلي أين يممت فإن لها أهل يثرب موعد ا
ويأتي على ذكر بيته:
نبي يرى ما لا يرون، وذكره أغار لعمري في البلاد وأنجدا
فيتوقف المعري عند كلمة أغار التي كثر فيها الخلاف "وإنما أذكرها لأنه قد لا يجوز أن يقرأ هذا الهذيان ناشئ لم يبلغه:حكي "الفراء" وحده (أغار) من معنى غار، إذا أتى الغور، وإذا صح هذا البيت "للأعشى" فلم يرد بالإغارة إلا الإنجاد"(12).
فالمعري، وبالرغم من كل ما قاله الأصمعي عن أغار وشرحه لها بمعنى الإسراع والإنجاد والارتفاع، وما قاله الجوهري عن هذه الكلمة التي لا تحمل دلالة أتى الغور، كما زعم الفراء، فإنه يقرر بأن أغار –إن صح هذا البيت للأعشى- لم يرد إلا ضد الإنجاد. ونراه من بعد يحمل ابن القارح نقداً لغوياً لبيت عدي بن زيد الذي استشهد به سيبويه:
أراوح مودع أم بكور أنت فانظر لأي حال تصير
فبالنسبة لسيبويه، يجوز أن يرتفع الضمير أنت بفعل مضمر يفسره (فانظر) أما رأي المعري الذي يسوقه على لسان ابن القارح، فإنه يستبعد هذا التأويل دون أن يقدم البديل، ولا نظن أن المعري كان يقصد من رد
عدي بن زيد على كلام ابن القارح "دعني من هذه الأباطيل " سوى السخرية من تأول النحاة على الشعراء وقياسهم الشعر على ما ليس له علاقة بطبيعة اللغة.
تلاحظ الباحثة الدكتورة عائشة عبد الرحمن أن عدي بن زيد في قوله دعني من هذه الأباطيل لم يكن يقصد تكلف النحاة خاصة، وإنما أراد أنه في شغل بنعيم الجنة عن الشعر والنحو والنحاة جميعاً، ونحن نزعم أن المعري ما قصد إلا ما تدل عليه كلمة الأباطيل عندما يرتبط معنى النحو بالتكلف في التأول، وبتخريج الشعر على غير ما فيه، ولا نعد أنه قبيل المصادفة يذكر كلمة الأباطيل مرتبطة بالنحو مرات عديدة في "الغفران" ففي المرة الأولى يذكر هذه الكلمة ويربطها بالنحو على لسان عدي بن زيد كما في المثال السابق. وفي المرة الثانية يذكرها على لسان بشار بن برد "دعني من أباطيلك، فإنني لمشغول عنك" (الغفران،305) أما في المرة الثالثة، فإن كلمة الأباطيل في مناسبة تأويل قول المتنبي "أذم إلى هذا الزمان أهيله" (الغفران، 378). ناهيك عن ورود هذه الكلمة في رسائل أخرى من رسائل المعري كرسالة الملائكة، ويجب أن لا ننسى تعلق المعري بالسماع وتركه للتأول والقياس، بالإضافة إلى المآخذ الكثيرة التي كان يأخذها على آراء نحاة البصرة. من ذلك ما قاله على لسان القارح مخاطباً النابغة الجعدي، فكيف تنشد قولك:
وليس بمعروف لنا أن نردها صحاحاً ولا مستنكراً أن تعقرا
أتقول: (ولا مستنكراً) أم (ولا مستنكر) فيقول الجعدي: بل (مستنكراً). فيقول الشيخ: فإن أنشد منشد (مستنكر) ما تصنع به ؟ فيقول أزجره وأزبره. نطق بأمر لا يخبره. فيقول الشيخ –طول الله أمد البقاء- إنا لله وإنا إليه راجعون ما أرى سيبويه إلا وهم في هذا البيت، لأن أبا ليلى أدرك جاهلية وإسلاماً، وغذي بالفصاحة غلاماً.
وهذا رد واضح على رواية سيبويه برفع مستنكر وجواز جرها ونصبها (13).
ويمضي أبو العلاء في ذكر هذه الخلافات على شكل حوار مسرحي مشوق، فها هم علماء اللغة يجتمعون ويتحاورون ويختلفون على وزن إوزة، ويسوق المعري في معرض الحوار رأيه في تأول النحاة على لسان أبي عثمان المازني "تأول" من أصحابنا وادعاء، لأن إوزة لم يثبت أن الهمزة فيها زائدة "فيرد عليه الأصمعي بعد أن أخفق في إقناعه:
ريشت (جرهم) نبلاً فرمى "جرهماً" منهن فوق وغرار
تبعتهم مستفيداً، ثم طعنت فيما قالوه معيداً، ما مثلك ومثلهم، إلا كما قال الأول:
أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني
وينهض كالمغضب، ويفترق أهل ذلك المجلس وهم ناعمون (الغفران، 276) ويدل هذا الحوار بين المازني والأصمعي على أن الخلاف النحوي لم يكن حصراً على المذهبين البصري والكوفي فالأول نحوي من نحاة البصرة المتقدمين، والثاني راوية وصاحب لغة ونحو وسبق المازني في مجالس البصرة، بل لم يكن النحاة جميعاً يلمون بالمذهبين وكان كثير منهم يحفظون آراء شيوخهم كثيراً من نحو المذهب الآخر مما يشير إلى أنه أصبح لكل مذهب نوع من الاستقلال عن المذهب الآخر" (14).
لم يكن المعري شديد العصبية على نحاة البصرة، حتى لو أفصح عن ميله لنحاة الكوفة. لأن السماحة العلمية التي كان يتمتع بها المعري خليقة بأن تبعده عن أية عصبية مذهبية ولعل الحوار الذي أشرنا إليه بين المازني والأصمعي يدل على ذلك، بالإضافة إلى تأييده بعض روايات سيبويه، كقوله لراعي الإبل (عبيد بن الحصين النميري) "أحق ما روى عنك سيفي قصيدته (اللامية) التي تمدح فيها "عبد الملك بن مروان" من أنك تنصب (الجماعة) في قولك:
أيام قومي والجماعة كالذي لزم الرحالة أن تميل مميلا
فيقول: حق ذلك". ومثال آخر على موضوعية المعري في تناوله للنحاة، وإنصافه لمن يقول الحق حتى لو كان بصرياً، بيت طرفة بن العبد:
ألا أيها الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات، هل أنت مخلدي
فسيبويه يكره نصب (أحضر) لأنه يعتقد أن عوامل الأفعال لا تضمر أما الكوفيون فإنهم ينصبون أحضر بالحرف المقدر، ويقوي ذلك قول الشاعر وأن أشهد اللذات، ولكن نصب أحضر ليس خاصاً بالكوفيين فها هو المازني يروي عن علي بن قطربا أنه سمع أباه "قطربا" يحكي عن بعض البعض نصب أحضر. والحق أن المعري تعرض كثيراً في رسالته للغويين الذين عدّوا النحو كله قياساً ونقد حججهم وفند آراءهم وسخر من أحكامهم، لذا نجد أن نصيب أبي علي الفارسي من النقد والتعريض كبير في الغفران، وكان أبو علي الفارسي من أئمة القياس وهو القائل "لأن أخطئ في خمسين مسألة مما بابه الرواية أهون علي من أن أخطئ في مسألة واحدة قياسية"(16).
ولعل مشهد أبي علي الفارسي والشعراء الذين يتحلقون حوله، يجادلونه ويلومونه على طريقته الذهنية في استنباط القواعد وتعليلها، هو من أهم المشاهد التي تتمحور على الخلاف النحوي الذي كان محتداً في المرحلة الزمنية التي سبقت المعري. ويظهر هذا بوضوح موقف المعري اللغوي من ذلك الخلاف.
يقول المعري:" وكنت قد رأيت في المحشر شيخاً لنا كان يدرس النحو في الدار العاجلة، يعرف "بأبي علي الفارسي" وقد امترس به قوم يطالبونه، ويقولون: تأولت علينا وظلمتنا، فلما رآني أشار إلي بيده، فجئته فإذا عنده طبقة، منهم "يزيد بن الحكم الكلابي" وهو يقول: ويحك، أنشدت عني هذا البيت برفع (الماء) يعني قوله:
فليت كفافاً كان شرك كله وخيرك عني ما ارتوى الماء مرتوي
ولم أقل إلا (الماء). وكذلك زعمت أني فتحت الميم في قولي:
تبدل خليلاً، كشكلك شكله فإني خليلاً صالحاً بك مقتوي
وإنما قلت "(مقتوي) بضم الميم" (الغفران، 246) وهكذا يمضي المعري في محاكمة أبي علي الفارسي إلى أن يتدخل ابن القارح ليدافع عن أستاذه قائلاً: "يا قوم إن هذه الأمور هينة فلا تعتنوا هذا الشيخ فإنه يمت بكتابه في (القرآن) المعروف بكتاب الحجة) وإنه ما سفك لكم دماً، ولا احتجن عنكم مالاً" (الغفران، 247).
وواضح من ذكر بيتي يزيد بن الحكم الكلابي، أن المعري يعارض أبا علي الفارسي. ففي البيت الأول يرفع الفارسي (الماء) على أساس أنه فاعل للفعل ارتوى، بينما لا يقصد الشاعر إلا الماء بالخافض على مذهب أبي العلاء الذي يرى معنى الكلام "ما ارتوى من الماء مرتو" وعبارة نزع الخافض هي عبارة أهل السماع الذين يفضلهم المعري على أهل القياس.
وفي البيت الثاني يفتح الفارسي الميم في مقتوى، بينما يفضل المعري ضم الميم كما أنشد الشاعر، وحجة المعري في ذلك أن الميم المفتوحة لا تتعدى إلى شيء لأنه ليس باسم فاعل، أما الميم المضمومة فقد جعلت كلمة مقتوي تتعدى إلى (خليلاً) فإن قلت: إن باب (افعل) لا يتعدى فالجواب أن الشاعر يجوز أن يكون حمل ذلك المعنى فعداه. والمعنى: (فإني خليلاً بك خادم). وإن شئت نصبت خليلاً بفعل مضمر يدل على (مقتو)، فكأنه قال: فإني أخدم أو أسوس أو أستبدل بك خليلاً. ودل (مقتو) على ذلك(17).
ومن نقد المعري لغلاة النحو والذين أساؤوا الرواية ما جاء في حوار ابن القارح وامرئ القيس، عندما سأل الأول الثاني، ماذا أردت بالبكر في قولك "كبكر المقاناة البياض بصفرة" فقد اختلف المتأولون في ذلك، فقللوا البيضة، وقالوا: الدرة، وقالوا: الروضة، وقالوا: الزهرة، وقالوا: البردية. وكيف تنشد البياض، أم البياض؟ فيرد الثاني: كل ذلك حسن، وأختار (البياض) بالكسر. فيقول المعري على لسان ابن القارح لو شرحت لك ما قال النحويون في ذلك لعجبت"(الغفران، 306).
وليس غريباً أن يفضل أبو العلاء الرواة الثقات على النحويين وهو العارف أن النحو أخذ أصلاً عن هؤلاء الرواة، ولعل حكاية سيبويه مع معلمه حما د بن سلمة خير دليل عندما ظن الأول أن ثمة لحناً في رواية الثاني لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس من أصحابي إلا من لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء" فقال حماد: لحنت يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبت (أي أنه ظن أن الصحيح هو قوله ليس أبو الدرداء باعتبار اسم ليس) وإنما "ليس"
ها هنا استثناء، فرد سيبويه: لا جرم سأطلب علماً لا تلحنني فيه".
إن مذهب أبي العلاء في النحو واضح كل الوضوح، وهو يدل دلالة قاطعة على الثقافة اللغوية التي كان يمتلكها هذا العالم الجلي فاطلاعه على ما رواه الثقات جعله يتوقف عند كل كلمة يشرحها ويبحث في تشعب دلالاتها، ويستبعد ما ذهب إليه بعض النحويين في إعرابها ضمن سياقها، كقوله في بيتي عمرو بن كلثوم:
فما وجدت كوجدي أم سقب أضلته فرجعت الحنين
ولا شمطاء لم يترك شقاها لها من تسعة إلا جنينا
يجوز نصب شمطاء من وجهين: "أحدهما على إضمار ر فعل دل عليه السامع معرفته به، كأنك قلت: ولا أذكر شمطاء، أي إن حنينها شديد، ويجوز أن يكون على قولك: ولا تنس شمطاء، أو نحو ذلك من الأفعال، وهذا كقولك: "إن كعب بن مامة" جواد ولا "حاتماً"، أي إنه جواد عظيم الجود، قد استغنيت عن ذكره باشتهاره. والآخر، أن يكون من ولاه المطر إذا سقاه السقية الثانية، أي هذا الحنين اتفق مع حنيني، فكأنه قد صار له ولياً، ويحتمل أن يكون من ولى يلي، وقلب الياء على اللغة الطائية" (الغفران، ص.ص 223،224). أو كقوله في
بيت المتنبي "وأهل، كلمة أصل وضعها للجماعة، في قال: ارتحل أهل الدار، فيعلم السامع أن المتكلم لا يقصد واحداً بما قال، إلا أن هذه الكلمة قد استعملت للأحاد، فقيل: فلان أهل الخير وأهل الإحسان (...) وكأن هذه اللفظة، أصلها أن تكون للجمع ثم نقلت إلى الواحد، كما أن صديقاً وأميراً ونحوهما، إنما وضعن في الأصل للأفراد، ثم نقلن إلى الجمع على سبيل التشبيه. وكذلك قولهم: بنو فلان أخ لنا. ويقال: أهل وأهلة وأهلات في الجمع. قال الشاعر:
فهم أهلات حول "قيس بن عاصم" إذا أدلجوا بالليل يدعون كوثرا
وقال بعض النحويين في تصغير آل الرجل: يجوز أويل وأهيل، كأنه يذهب إلى أن الهاء في أهل أبدلت منها همزة، فلما اجتمعت الهمزتان جعلت الثانية ألفاً، ومثل هذا لا يثبت. والأشبه أن يكون آل الرجل، مأخوذاً من آل يؤول إذ ا رجع، كأنهم يرجعون إليه أو يرجع إليهم.
وأورد المعري في "الغفران" الخلاف القائم بين اللغويين في قولهم "فداء لك" يقول المعري في رده على ابن القارح: ألا يعجب من قول العرب: (فداء لك) بالكسر والتنوين كما قال الراجز:
ويهاً فداء لك يا "فضاله" أجره الرمح، ولا تباله
ويروي: (تهاله)
وذكر "أحمد بن عبيد بن ناصح" وهو المعروف "بأبي عصيدة" أن قولهم (فداء لك) بالكسر إذا كان لها مرافع، لم يجز فيها الكسر والتنوين. ولا ريب أنه يحكي ذلك عن العلماء الكوفيين، وعينه في قوله "النابغة":
مهلاً فداء لك الأقدام كلهم وما أثمر من ما ل ومن ولد
فأما البصريون فقد رووا في هذا البيت: (فداء لك) بالضم. وهكذا يمضي أبو العلاء رده على ابن القارح في استعراض ثقافته اللغوية، التي – وإن بدت متأثرة بالنحو الكوفي فهي محيطة إحاطة تامة ومعمقة بأقوال أئمة النحو البصري، لذا فإن المعري يقف من المسائل اللغوية موقف المحلل المناقش الذي يستعرض الآراء مهما كان مصدرها فيردها أو يتبناها حسب ما يسمح له علمه الموسوعي ومنهجه العقلاني بذلك، وإذا كان الثراء اللغوي كان يمتلكه المعري سبباً في علو مكانته العلمية بين عاماء عصره فإنه السبب أيضاً في اختلاف الباحثين حول قيمة أفكاره.
"فبينما يغالي (فون كريمر) A.V.Kremer في تقديره ويعده مفكراً أصيلاً يرى فيه "روزون" Rosen (...) على العكس من ذلك لغوياً لا مفكراً، يعنيه التركيب البلاغي الفني أكثر من الفكرة، كما أن سعيه وراء اللعب بالألفاظ كان يمكن أن يقوده إلى مسالك للفكر بعيدة عنه"(18).
ويذهب بروكلمان إلى أن نيكلسون مصيب في عقد مقارنة بين المعري والشاعر الإغريقي يوريبيدس، فالإثنان فنان عظيمان يعرفان كل تراث عصرهما من العلم، غير أنهما ليسا مفكرين منهجيين.
غير أن المعري وبالرغم من كل ما قيل فيه يبدو في "الغفران" مفكراً مطلعاً على شتى المعارف الدنيوية، ملماً بشتى ألوان الحياة الدينية وهو مع ذلك لم يقحم القضايا الفلسفية التي كانت مزدهرة في عصره والتي نهل منها في صبر وأنا ة وعزلة في موضوعات لا تحتمل هذه القضايا، فالمسائل اللغوية التي طرحها المعري في "الغفران" كانت مسائل لغوية صرفة، وتمت مناقشتها بطريقة علمية مأخوذة من طبيعة اللغة ذاتها، لذا، فإن القارىء لم يجد أثراً لعلم الكلام في مناقشة المعري للمسائل النحوية بالرغم من تسرب علم الكلام والفقه والفلسفة للدرس النحوي في الحقبة التي عاش فيها المعري، وهذا يدل دلالة واضحة على المنهج العلمي الذي اتبعه المعري، في تعرضه لمسائل اللغة والنحو في "الغفران" على عكس ما قاله بعض المستشرقين عن غياب المنهج عند المعري