مسألة الإنيّة والغيريّة
تندرج مسالة الإنية والغيرية في مسألة أهم هي مسألة الإنساني بينالكثرة والوحدة. وهذه المسألة تتحرك في سياق مطلب الكونية. ذلك أن الإنسان قد كفّ على صنع صورا وماهيّات وتعريفات متعالية تنتزع الصّور عن مادّتها وتحوّلها إلى تجريدات، ولعلّ ذلك ما استجابت إليه التصوّرات الفلسفيّة بأن تخلّت عن سؤال "ما الإنسان؟" نحو سؤال أكثر تجذيرا في خصوصيّته وأكثر تطلّعا لتحديد "الإنساني فينا" لأنّه وحده سيسمح بمشروع لقاء الإنسان بالإنسان ممكنا. ولا يتحقق ذلك إلاّ بتجاوز الأوهام الميتافيزيقيّة القديمة التي رسّختها الفلسفة الكلاسيكيّة نحو حالات وجود واقعيّة تعيّن وضعيّة النوع الإنساني.
الفلسفة بالتالي ستحوّل وجهتها من البحث عن سؤال ما الإنسان ؟ إلى البحث في أشدّ الصفات التي تحقّق إنسانيّة الإنسان.
أفلاطون Platonيقرّ أفلاطون أن كمال الوجود الإنساني أي إنية الإنسان تتحقق بالنفس وحدها ذلك أن أفلاطون يتبنى موقفا ثنائيا إذ يفسر الإنسان بإرجاعه إلى مبدأين مختلفين:
* مبدأ روحاني هو النفس * مبدأ مـــادي هو الجسد.
ويختزل الإنسان في بعده الواعي و يقر بأن النفس تتحكم كليا في الجسد.
وخصوصية أفلاطون تتمثل في إقراره بأن النفس جوهر في حين يمثل الجسد عرض. لذلك يختزل أفلاطون الإنسان في بعده الواعي ويقصي الجسد من ماهية الإنسان، إذ أن الجسد بالنسبة إليه عاطل عطالة كاملة فالنفس هي التي تحرّكه وهو مصدر رذيلة ويمثل عائقا يعوق النفس في عملية صعودها نحو المثل.
أرسطوAristoteيطرح أرسطو مشكلة علاقة النفس والجسد في إطار فهمه لعلاقة الصورة بالمادة ومن هذا المنطلق فإن الإنسان سيكون إنسانا بصورته أي بنفسه، فالنفس أو الروح هي ما يمثل حقيقة الإنسان. فتماما كما تشكل الصورة المادة، تشكل النفس الجسد وبالتالي فإن أرسطو يختزل الإنسان في بعده الواعي و هذا ما يظهر بجلاء في إقراره بأن الإنسان حيوان عاقل. و هذا المنظور الأرسطي الذي يفهم الإنسان على شاكلة فهمه لعلاقة الصورة بالمادة جعله ينتهي إلى تحديد النفس بما هي مبدأ حركة.
ابن سينا يستخلص ابن سينا أن النفس هي الإنسان عند التحقيق و أن الجسد لا يمثل حدا في ماهية الإنسان. ذلك أن ابن سينا تماما مثل أرسطو و أفلاطون يقرّ بأن النفس العاقلة هي ما يؤسس حقيقة الإنسان و ماهيته، فالأنا يدرك ذاته دون أن يكون في حاجة إلى أيّ علة خارجة عنه سواء كانت جسدا أو أي شيء آخر خارجي.
براهين ابن سينا على وجود النّفس هي: البرهان الطّبيعي والسّيكولوجي، برهان الاستمرار، برهان وحدة قوى النّفس، وبرهان الرّجل الطّائر.
البرهان الطّبيعي:
ويقدّم ابن سينا لهذا البرهان بتقسيمه الحركة إلى نوعين: حركة قسريّة وحركة إراديّة وتصدر الحركة القسريّة عن محرّك خارجي يدفع المتحرّك إلى الحركة قسرا. وأمّا الحركة الإراديّة فإنّ منها ما يحدث على مقتضى الطّبيعة ومنها ما يحدث ضدّ مقتضى الطّبيعة. والنّوع الذي يحدث على مقتضى الطّبيعة هو كسقوط الحجر من أعلى إلى أسفل، أمّا النّوع الذي يحدث ضدّ مقتضى الطّبيعة فهو كتحليق الطّائر إلى الأعلى بدل أن يسقط إلى الأسفل فهذه الحركة المضادّة للطّبيعة إنّما تستلزم محرّكا خاصّا زائدا على عناصر الجسم المتحرّك، وهذا المحرّك هو النّفس.
وكذلك تدلّنا أفعال الكائن الحيّ من تغذّ ونموّ وتوليد وإحساس وحركة بالإرادة، على أنّ هذه الأمور الطّبيعيّة لا يمكن أن تصدر عن الجسم وحده فلا بدّّ بأنّها تصدر عن مبدأ آخر غير الجسم وهذا المبدأ الذي تصدر عنه هذه الأفعال المختلفة هو النّفس.
البرهان السّيكولوجي: ويقوم هذا البرهان على إثبات وجود النّفس من خلال ملاحظة انفعالاتها كالتّعجّب والضّحك والضّجر والبكاء والخجل وكذلك من إدراك الصّفات التي تتميّز بها النّفس كالنّطق وتصوّر المعاني الكلّيّة العقليّة المجرّدة وهذه الأحوال والأفعال التي يختصّ بها الإنسان دون غيره من الكائنات الحيّة إنّما توجد له بسبب النّفس.
برهان الاستمرار: وهو يقوم على أنّ أحوال الإنسان على تغيّرها تتّصف بالاستمرار والاتصال بين الماضي والحاضر والمستقبل بينما نجد الجسد يخضع للتّغيّر والتّبدّل والزّيادة والنّقصان والنّفس تبقى على حالها إذ أنّها تتذكّر الأحوال السّابقة وتحسّ خلال هذا التّذكّر باسمرارها في هذه الذّكريات المترابطة ويعني ذلك أنّ الإنسان يعزو استمرار أفعاله في الماضي والحاضر والمستقبل إلى مبدأ واحد تصدر عنه هو النّفس.
"تأمّل أيّها العاقل في أنّك اليوم في نفسك هو الذي كان موجودا في جميع عمرك، حتّى أنّك تتذكّر كثيرا ممّا جرى من أحوالك، فأنت إذن ثابت مستمرّ لا شكّ في ذلك، وبدنك وأجزاؤها ليس ثابتا مستمرّا، بل هو أبدا في التّحلّل والانتقاص.. فتعلم نفسك أنّ في مدّة عشرين سنة لم يبق شيء من أجزاء بدنك وأنت تعلم بقاء ذاتك في هذه المدّة، بل جميع عمرك، فذاتك مغايرة لهذا البدن، وأجزاؤه الظّاهرة والباطنة".
وحدة النّفس وبرهان الأنا: لمّا كانت النّفس محلاّ للمعقولات (السرور ـ الحزن ـ الغضب...)، وكانت المعقولات غير جسميّة بحيث لا تنقسم كالأجسام، فلا بدّ أن يكون محلّها على شاكلتها أي جوهر غير جسميّ وغير منقسم.
يقول: "إنّ الإنسان إذا كان منهمكا في أمر من الأمور فإنّه يستحضر ذاته، حتّى أنّه يقول فعلت كذا... وفي مثل هذه الحالة يكون غافلا عن جميع أجزاء بدنه. والمعلوم بالفعل غير ما هو مغفول عنه. فذات الإنسان مغايرة للبدن"
برهان الرّجل الطّائر أو الإنسان المعلّق في الفضاء: وفيه أنّ الإنسان إذا غفل عن أعضاء جسمه فإنّه لا يغفل عن ذاته أبدا يقول اين سينا: "ولو توهّمت أنّ ذاتك قد خلقت، أوّل خلقها، صحيحة العقل والهيئة، وافرض أنّها لا تبصر أجزاءها ولا تتلامس أعضاؤها، بل هيّ منفرجة ومعلّقة لحظة ما في هواء طلق، وجدتها قد غفلت عن كلّ شيء إلاّ ثبوت إنّيتها"
ديكارت Descartesلإثبات الذات موجودة ينطلق ديكارت من تجربة الشك. إذ أن ديكارت يشك في كلّ شيء يجد فيه مجرّد تردّد وهكذا لا يترك الشك مجالا دون أن يطاله. إلا أن هذا الشك الذي طال كلّ شيء لا يستطيع أن يخامر الحالة التي أكون فيها بصدد الشكّ. فديكارت يستطيع أن يشك في كلّ شيء إلا في كونه يشك لأن الشك في الشك لا يقوم إلا بتدعيم الشك. و هكذا يأتي الشك على كلّ شيء إلا على اليقين الذي يتضمنه، يقين الذات بذاتها موجودة كفكر أي يقين الكوجيتو.
وخصوصية ديكارت تتمثل في كونه على خلاف أفلاطون وأرسطو يحدد النفس كفكر لا كمبدأ حركة وبالتالي تماما مثل أرسطو وأفلاطون يعتبر أن النفس جوهر ولكنه على خلاف أرسطو وأفلاطون يعتبر أيضا أن الجسد جوهرا من جهة كونه مستقل بذاته إذ أن حركة الجسد لا تفسرها النفس وإنما هي حركة آلية ميكانيكية نابعة من طبيعة الجسد ذاته كامتداد مادي.
أفلاطون، أرسطو، ابن سينا و ديكارت يثبتون إذا الإنية بإقصاءكلّ أشكال الغيرية داخلية كانت أم خارجية فلا الجسد ولا العالم الخارجي يحددانماهية الإنسان.
ومن هذا المنطلق تتحدد الذات باعتبارها واقعا ميتافيزيقيا، باعتبارها المعنى المؤسس للإنسانية والأنا ليس إلا الوعي بوحدة الذات التي تربط وتجمع بين حالاتها المختلفة وأفعالها المتعاقبة في الزمان. والذات عند هؤلاء الفلاسفة تتحدّد في نهاية المطاف باعتبارها الجوهر وهو التحديد الذي أقرّه أرسطو بما أن الذات كجوهر تسند إليها كل الخصائص والأعراض بما في ذلك الجسد.
سبينوزا Spinoza
يمثل موقف سبينوزا أول موقف فلسفي يرد الاعتبار للجسد في تحديد الإنية ولكن أيضا موقف يسعى إلى إقحام الإنسان في الطبيعة و في العالم عبر سلب الامتيازات الميتافيزيقية التي أضفاها التصور الثنائي على الإنسان.
ــ التأكيد منذ البداية على وحدة النفس والجسد.
ــ توجّه صريح ضدّ التصورات العقلانية عامّة وضدّ التصوّر الديكارتي خاصّة.
ــ التصوّر الديكارتي: إقرار بثنائية النفس والجسد ( الجوهر المفكّر والجوهر الممتد).
←الإعتراف ثنائيّة جوهريّة.
ــ النفس ( الروح، الذهن، الفكر) شرط لا يقوم الوجود بدونه.
ــ النظرية الديكارتية هي نظريّة تعدد الجواهر. ونظريّة سبينوزا هي نظريّة وحدة الجوهر.
ــ ما كان جوهران عند ديكارت أصبحا صفتين لجوهر واحد عند سبينوزا.
ــيشير سبينوزا إلى العلل والقوانين التي تحكم الجسد، ويقدّم لنا جملة من الأمثلة لتأكيد أطروحته:
ــ النائم الماشي: غياب القدرة على أخذ القرارات بالحركة ومع ذلك فالجسد يتحرّك.
ــ أفعال بعض الدواب: أفعال مدهشة جسدها قادر على الفعل بالرغم من غياب الفكر.
حجج الفلسفة العقلانية ( خصوم سبينوزا ):
ــ قصور الجسد في حالة قصور النفس ( التفكير ).
ــ حرية أفعال النفس المستقلّة عن الجسد.
الردّ السبينوزي:
ــ قصور النفس في حالة قصور الجسد ( النوم، الإرهاق، المرض، الجوع ).
ــ أفعال النفس غير حرّة لأنها غير ناتجة عن اختيارات حرّة وإنما هي محكومة ومدفوعة بانفعالات ظرفية ونوازع ورغبات.
ــالحريّة المطلقة إذن هي وهم والإنسان في النهاية محكوم بنوازع ورغبات. مثال: ( الثرثار، المخمور ).
الجسد مع سبينوزا يتماهى مع النفس في مستوى الماهية بما أن النفس والجسد شيء واحد تارة ننظر إليه من جهة صفة الفكر وطورا ننظر إليه من جهة صفة الامتداد، و يتماهي معها في المستوى الانطولوجي بما أن كلّ من النفس والجسد يمثل ضربا أو حال، و يتماهى معها في مستوى القوة والفعل بما أنّ فعل النفس هو فعل الجسد وهو الفعل الذي ينحو إلى المحافظة على البقاء.
مع سبينوزا إذا لا أنية دون الغيرية الداخلية والخارجية معا، فالإنسان يتحدد بوعيه وجسده ويتحدد كرغبة تتطوّر في العالم أو الطبيعة.
النقاش:
المكاسب:
ــ الكشف عن الالتباس القائم في التصوّرات الميتافيزيقيّة ( توهّم الحريّة المطلقة ).
ــ سبينوزا يقوم بثورة كوبرنيكيّة في تحطيمه لمفهوم الإنسان حسب المنظور الميتافيزيقي ويؤسّس لمعنى جديد للإنسان وهو إنسان الرغبة المهذبة بالعقل. الإنسان عند سبينوزا هو ذلك المخلوق الذي ترتبط فيه صفة الامتداد بصفة الفكر.
الحدود:
ــ ضلّ سبينوزا يحوم حول مفهوم اللاوعي دون أن يشير له صراحة أو الغوص فيه.
ــ يبقى سبينوزا ميتافيزيقي أفلاطوني النظرة، ديكارتي المذهب، وذلك لاقراره ولو ضمنيّا بالعقل ( صفة الفكر )، في حين الجسد وحده قوام للوجود.
ــ الجسد لدى سبينوزا هو ما يجب معرفته وليس هو الذي ما به أدرك.
مارلو بونتي M.M.Pontyإنّ تجاوز سبينوزا لثنائية النفس والجسد يبقى رهين الإقرار بالحلولية لذلك تتقدم الفينومينولوجيا مع مارلوبونتي وهوسرل كردّ فعل ضد الثنائيات التي أنتجها الإرث الديكارتي بين الشيء والفكرة، الموضوع والذات والجسد والنفس... وردّة الفعل هذه كانت بالعودة للوجود في العالم لاستكشاف ارتباط الجسد بمختلف سجلات القصدية بدأ بالإحساس ووصولا إلى الحكم. فالجسد بالنسبة لمارلوبونتي لا يمكن اختزاله في كونه مجرّد تراكم الوظائف و الميكانيزمات التي تصفها الفيزيولوجيا، ذلك أنني لا أستطيع أن أفهم علاقة النفس والجسد في الإنسان إذا كنت أعتبر الجسد مجرّد موضوع لأن هذا الجسد الموضوع هو جسد الآخر كما أراه، إنه هذه الجثة الهامدة التي يشرحها طلبة الطب في غرفة التشريح، في حين أن جسدي الخاص لا يدرك مثلما تدرك المواضيع الخارجية بل إني أعيش حضوره الحي من الداخل. فنحن مع الفينومينولوجيا لم نعد إزاء جسد ملطخ بنقص ما، إذ نكتشف أن الجسد ذات و أن الإنسان واحد وما كان يسميه ديكارت جسدا ليس إلا الشخص الموضوع أي الإنسان كما يبدو في الفضاء وفي نظر الآخر، و ما يسميه ديكارت نفسا ليس إلا الشخص الذات أي ما يمثله الإنسان بالنسبة للأنا وهو ما يسميه مارلوبونتي بالجسد الذات.
ردّ الاعتبار للجسد مع مارلوبونتي مرفوق باستحضار العالم كآخر يمثل شرطا لتحقيق الانية، لأن الوعي المتجسد يتحدّد في علاقتهالقصدية بالعالم إذ يتحدّد الوعي مع الفينومينولوجيا باعتباره فعل التمعين بما أن كلّ وعي هو وعي بشيء ما، و هكذا فإن الوعي ليس كما اعتقد ديكارت داخلية محضة وبسيطة، فالوعي ليست له محتويات بما أنه الفعل الذي نقصد به الموضوع، و بما أن هناك طرقا مختلفة للتوجّه نحو الموضوع فإنه يجب أن نتحدث مع الفينومينولوجيا على أصناف الوعي : وعي مدرك، وعي راغب، وعي متخيل، وعي مندهش...و العالم من هذا المنظور هو مجموع معاني، و بالتالي لا يمكن أن يوجد وعيا نظريا بالذات، و بما أن علاقة الوعي بالعالم هي علاقة ديناميكية فلا نستطيع أن نفهم العالم دون وعي و لا نستطيع أن نفهم الوعي دون عالم، فلا يوجد عالم إلا بالنسبة للوعي ولا يوجد وعي إذا لم يكن وعي عالم.
هيقل Hegel
□ تتنزّل الفلسفة الهيغليّة ضمن الفلسفات المثاليـّـة (ضدّ الماديـّـة)، و هي التي تقول بأولويـّـة الفكر والروح والنفس على المادّة .
□ ينطلق هيغل من تصوّر حول تطوّر الروح في التاريخ، حيث يتمثّل هذا المسار في ثلاث مراحل وهي:
● مرحلة الروح الذّاتي: الوعي البسيط، الساذج والقطيعي.
● مرحلة الروح الموضوعي: رحلة الاعتراف بالآخر ( وعي متفتـّـح على الآخر).
● مرحلة الروح المطلق: اكتمال نضج الوعي البشري ( ظهور الفلسفة، الدّين والفن...).
□ الاغتراب حسب هيغل يمثـّـل مرحلة ضروريّة للمرور من الوعي الذاتي إلى الوعي الموضوعي وصولا إلى مرحلة الروح المطلق.← هو إذا انفتاح يمثل شرط تطوّر الوعي.
مثال: جدليّة السيّد والعبد( السيّد يحاول نفي الآخر والعبد يحاول أيضا نفي الآخر، لكن كلاهما لا يكون هو ذاته إلاّ بمغايرة الآخر له ).
□ يظهر التفكير الفلسفي في المرحلة الأخيرة ( إستعاب الفلسفة للواقع ). ← الفلسفة لا تظهر إلاّ متأخّرا لأنّها تمثل مرحلة اكتمال نضج الوعي البشري ومهمتها تتمثّل في ترجمة هذا الواقع وفهمه إنّها حقيقة الكلّ لأن مطلبها الكليّة والشموليّة.
يقول هيغل: : كل ما هو واقعي عقلي وكل ما هو عقلي واقعي .
فعل الوعي بالذات لا يتحدّد إلا بواسطة الآخر لذلك يجب على الوعي بالذات أن يحافظ على الآخر إذا أراد أن يحقق وعيه بذاته كذات واعية.
وجدلية السيد والعبد تبين لنا مع هيقل أن الآخر ضروري لتحقيق الوعي بالذات وأن كلّ تعالي على الآخر يؤدي إلى فشل الذات في تحقيق انيتها فوجودي هو بالضرورة وجود مع الآخر الذي ينافسني على الإنسانية هذا الكوني الذي ترنو إليه فرديتي و الذي يمثل في معنى ما حركة تضمين الفردية أو الخصوصية لذلك فإن علاقتي بالآخر تقوم بالضرورة في إطار وساطة ما، و هذه الوساطة يجب أن تكون محايدة وإلاّ يترك التواصل مكانه إلى الصراع
ماركس Marxإذا كان سبينوزا ومارلوبونتي قد استعادا الجسد والعالم كأشكال من أشكال الغيرية في تحديد الإنية من زوايا مختلفة، من زاوية الجوهرية والرغبة بالنسبة لسبينوزا ومن زاوية القصدية والمنظورية بالنسبة لمارلو بونتي، فإنّ ماركس يستحضر الغيرية من زاوية تاريخية. فالوعي بالذات بالنسبة لماركس ليس متعاليا وليس مستقلا بذاته بما أن الوعي هو انعكاس للواقع الاجتماعي التاريخي، فالوعي مكتسب ومتطور، مكتسب لأنه يعكس علاقة مع الواقع الطبيعي.
الإقرار بزيف الوعي الذي تحوّل مع أعمال فلاسفة الرجّة إلى مجرّد وهم وسطح بحيث لم يعد الوعي المرجع الأوحد لكينونة الإنسان، كما لم يعد الكوجيطو أيضا مدخلا أو حدّا لذاتيّة الإنسان، على اعتبار أولا أنّ للوعي حدود يتشكّل بمقتضاها وثانيا باعتبار أنّ حقيقة الإنسان لا تكمن في الكوجيطو المفكّر وإنما الإنسان هو الجسد والرغبة والغريزة، إنّه إذن ذلك الكائن المنتج والاقتصادي فهو بالتالي ظاهرة من الظواهر الاجتماعية وهذا ما يؤكّده ماركس.
ــ تحديد بنية الوعي في إطار تركيبته الاجتماعية والتاريخيّة وهو ما يبرز حدود الوعي من خلال القراءة العلميّة الموضوعيّة للوعي بحيث سننتقل من الوعي الجوهر إلى الوعي كبنية، وهو بذلك ينفي فكرة كون الوعي هبة فطريّة مستقلّة بذاتها.
ــ يعلن ماركس عن أطروحة مفادها " الوعي هو أوّلا نتاج اجتماعي ويظلّ كذلك طالما وجد بشر".
ــ الوعي هو نتيجة وعي محدود بشروط اقتصاديّة واجتماعيّة.
← على هذا النحو تعترض الماركسيّة على جميع المقاربات الفلسفيّة المثاليّة التي جعلت الوعي منفصلا عن شروطه وبيئته وأكّدوا على استقلاليّة الوعي. يقول ماركس:" على عكس الفلاسفة الألمان الذين ينزلون من السماء إلى الأرض، نحن نصعد من الأرض إلى السماء ".
الوعي الماركسي هو كينونة تتحدّد وجوبا ضمن بنى وعلاقات مختلفة.
على عكس الوعي الديكارتي والذي يحدّد طبيعة الذات الإنسانيّة وعلاقاتها الاجتماعية المختلفة، فإنّ ماركس يرى أنّه لا وعي دون شروطه الاجتماعية " فليس وعي الناس هو الذي يحدّد وجودهم وإنّما على العكس من ذلك وجودهم الاجتماعي المادي هو الذي يحدّد وعيهم".
ــ الوعي ليس مبدأ إنما هو نتيجة فهو بالتالي مكتسب مثلما نكتسب المعرفة والثقافة وحسب ماركس فإن الإنسان لم يتمتّع بالوعي إلاّ لكونه جزء من الطبيعة، ولكي يتجاوز سيطرة الطبيعة عليه استنبط الوعي البشري جملة من الرؤى والتمثّلات النظريّة ( الأسطورة والفن والدين... ) والعمليّة (التي تمثّلت خاصة في العمل)، بمقتضاها يتمكّن الوعي من تجوز العلاقة البيولوجيّة (الغريزيّة)التي تشدّه إلى العالم والطبيعة أي تجاوز مجرّد العيش في العالم
(الطبيعة) لكي يخلق عالم ذاتي هو من إنتاجه.
← الإنسان في المنظور الماركسي إذن ليس هو ماهية عاقلة فحسب كما تصوّر ذلك النموذج الفلسفي التقليدي ولا هو أيضا ذلك الكائن البيولوجي الغريزي وإنما الإنسان هو كينونة بيوثقافيّة إذ ما يميّزه هو قدرته على صنع الثقافة التي بمقتضاها ينخرط في الطبيعة وينتقل من العالم القطيعي الحيواني إلى ما هو إنساني اجتماعي. يقول ماركس: " يتطوّر هذا الوعي القطيعي أو القبلي وينمو بنموّ الإنتاجيّة والحاجات".
ــ كل وعي يعكس بالضرورة واقع اجتماعي واقتصادي وثقافي فتبدو بذلك علاقة التأثير والتأثّر واضحة بين الأرضيّة الواقعيّة أو الماديّة للمجتمع (البنية التحتيّة) وبين الأرضيّة المثاليّة (البنية الفوقيّة: الوعي ـ التصوّرات ـ الأفكار...). هنالك تأكيد إذن على أنّ البنية التحتيّة هي التي تشكّل البنية الفوقيّة.
الشروط الماديّة هي المحدّد الأصلي والفاعل الحقيقي والمكوّن الرئيسي لبنية الوعي وهذا الإقرار هو نفي كلّي للتصوّر الذي يقرّ بمركزيّة الوعي وثباته واستقلاله على الوجود المادي.
النقاش:
المكاسب: يتمثّل أهم مكسب تحقّقه الماركسيّة في الخروج بمفهوم الوعي من الإسقاط والإنزال والتعالي لتجعل منه (الوعي) بنية ناتجة عن عوامل اجتماعيّة بتفاعلاتها المختلفة، فالوعي بذلك وهم يطفو على السطح كما ذهب إلى ذلك شوبنهاور فهو على حدّ عبارته "كالأرض لا نعرف إلاّ قشرتها أمّا باطنها فلا".
ولعلّ هذا ما ثمّنه بول ريكور حينما اعتبر ماركس قطب من أقطاب فلاسفة الرجة (كاشفي الأقنعة) لأنّه كشف عن أوهام الوعي الزائفة.
الحدود: لكن وبالرغم من جديّة أطروحة ماركس وانجازها المتميّز خاصّة في مستوى بيان حدود الوعي وزيفه فإنّ ماركس لم يقم بتحطيم الوعي نهائيّا واكتفى بالتظنّن( على الوعي دون إلغائه، ولعل هذا ما تفطّنت إليه جينيالوجيا نيتشه حيث لا يمثّل الوعي عنده جوهرا وأساسا، بل إنّ كينونة الإنسان متعيّنة في الحقيقة بالجسد وقواه ورغباته وغرائزه وحسب رأي نيتشه نشأة الوعي ليست سوى من أجل الإخفاء والتمويه وإنّ هذا الوعي هو ما يصنعه العبيد والضعفاء والمرضى من أجل التظاهر بالقوّة وعليه فإنّ رموز الوعي الأخلاقيّة والدينيّة لا تعبّر أبدا عن تفوّق الوعي بقدر ما تكشف عن أوهام المعتقدين فيه فعوضا عن الكوجيطو الواعي الكاذب والواهم والزّائف يمكن القول مع نيتشه أنّ هنالك جسد يفكّر ويتكلّم ويرغب في الرغبة ويعلن بأنّ تأسيس الحضارة لا يبدأ أصلا إلاّ بتحرير الرغبات ولا يتمّ ذلك إلاّ بإعدام الوعي وقبر القيم وتقزيم لكلّ الأخلاق لذلك قال نيتشه: " من أراد الخلق والإبداع عليه أن يبدأ أوّلا بتحطيم القيم " ولعلّ مقصده في ذلك تحطيم كلّي لقيمة الوعي الذي من سماته أنّه لا يترك الرّغبة تتحقّق لأنّه يقوم مقام الرّقيب أو السلطة المانعة التي تحمل الأفراد على فعل أشياء ما كانوا سيفعلونها لو تركوا أحرارا.
فرويد Freudإن إضافة فرويد تتمثل في اكتشافه للاشعور، أو تفطنه لانبجاس الغيرية داخل الانية، إذ يتقدم اللاوعي باعتباره الآخر الذي على الوعي أن يتسع لاستيعابه. و هو ما يعني أن إقرار فرويد بأهمية اللاوعي في تركيبة الإنسان ليس اقصاءا كليا للوعي بما أن الوعي يبقى المجال الذي يمكننا من إدراك اللاوعي إذ أن اللاوعي يتمظهر في اللاوعي الذي يفسره. و هكذا يبرز فرويد وهم اختزال الإنسان في بعده الواعي فالإنسان لا يتحدّد إلا في إطار هذه الكثرة الداخلية التي تتجاوز الإقرار الميتافيزيقي بوحدة الأنا إذ تنكشف نفسية الإنسان متعددّة بل مركبة من منظمات ذات رغبات متناقضة منظمات تنزل هي ذاتها في التاريخ بما أنها تتطور في السيرة الذاتية لكلّ فرد ولكن أيضا تتمثل معطيات عامة ترتبط بالتاريخ الحضاري الإنساني العام مثل ما يتمظهر ذلك في العقد الكونية التي تحدث عنها فرويد عقدة أوديب...
سبينوزا، مارلوبنتي، ماركس و فرويد بيـّنوا إذا وهمالاعتقاد في إمكان تحقيق الإنية بإقصاء كلّ أشكال الغيرية فأنا لا أستطيع أن أتحدث عن وجود كامل للذات إذا ما استبعدت الجسد والعالم والتاريخ واللاوعي، لا إنية إذا دون غيرية، ذلك ما يقره هيقل بشكل واضح وصريح عندما اعتبر أن فعل الوعي بالذات في حاجة إلى وساطة الآخر.