التمهيد
إن كل تفكير في الإنسان على النحو الذي يضمن مقاربته على وجه كوني يستلزم النظر في مستوى وجوده المرتبط بالممارسة، وما يحيل عليه هذا الربط من إحالة على مستوى الوجود مع الآخر،لا في سياق المقاربة الأنطولوجية الميتافيزيقية،على أهميتها وضرورتها،وإنما في إطار وجوده الواقعي كما يتحدد في مقتضيات الوجود الاجتماعي. ما يجعل من هذا الإقرار مشروعا؛ أي الربط بين تحديد الإنساني في الإنسان و الوجود الاجتماعي، هو ما يثبته النظر في الوضع الإنساني من كونه وجود اجتماعي ضرورة إذ لا يمكن تصور وجود إنساني فردي منعزل عن كل سياق اجتماعي. لا يتعلق الأمر بمجرد ضرورة نظرية ولكن ذلك ما يثبته الواقع على نحو بين لا يحتمل المجادلة.
يعود هذا الربط بين تحقق الإنساني في الإنسان ووجوده الاجتماعي إلى تعذر توفر شروط حفظ البقاء بالنسبة للإنسان كفرد باعتبار عجزه عن توفير مختلف حاجاته التي يتحقق بها حفظ البقاء . هذا العجز والمحدودية التي تطبع وجوده البيولوجي والفيزيولوجي من جهة وتعدد حاجاته وتنوعها وتطورها من جهة ثانية ،هو ما يفرض حاجته للأخر من أجل التعاون في توفير هذه الحاجات.
عن الحاجة للتعاون ينشأ الاجتماع الإنساني ويتطور من مستوى الوجود الضيق المحدود بالأسرة والقبيلة لمستوى المجتمع الكبير. غير أن المفارقة التي يثيرها هذا الاجتماع تتمثل في التالي؛ ذلك أنه بقدر ما يبدو هذا الاجتماع ضروريا لاستمرار الوجود الإنساني حتى في حدوده الدنيا ،فان انتظام هذا الاجتماع وبالتالي إستمراريته، ليس تلقائيا ولا ثابتا. وبعبارة أخرى فبقدر ما يكون هذا الاجتماع ضروريا وبقدر حاجة الفرد لكل واحد من الآخرين؛ فان استمرار هذه العلاقة بين مجموع الأفراد ،على النحو الذي يحقق الغاية من اجتماعهم،أي التعاون،تحف به أخطار عديدة ، سواء كانت خارجية؛ بسبب ما يمكن أن يتعرض له هذا المجتمع من تهديدات خارجية من طرف مجتمعات أخرى، أو خاصة؛ من تهديدات داخلية تتحدد، أساسا،في إمكان تعارض مصالح الأفراد بما يهدد بتصدع هذه الوحدة ،وما يمكن أن ينتج عن هذا التصدع من مخاطر تحول دون تحقق الفائدة المفترضة من هذا الاجتماع.
تكمن مخاطر انحلال الوجود الاجتماعي في كون مثل هذا الواقع ينتهي بالإنسان إلى مستوى الوجود الحيواني القائم على الفردية والجزئية والخضوع المطلق لنظام الطبيعي، وهي كلها معطيات تتقابل مع محددات الإنساني في الإنسان القائمة على ما هو كوني وكلي. بذلك يكون تحديد الإنساني على وجه كوني يستوجب وجودا اجتماعيا قائما على الوعي بضرورة هذا الوجود وخاصة الوعي بضرورة توفير شروط استمرارية هذا الوجود من خلال العمل على توفير شروط تماسك الوجود الاجتماعي.
تتحدد شروط تثبيت استمرارية المجتمع، بما يحقق كونية الوجود الإنساني، في إطار وجود مدني سياسي، بحيث، يستوجب الأمر، توفر شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي الذي يكون قادرا على تنظيم علاقة الأفراد قيما بينهم. يتعلق الأمر إذن بمسألة "تدبير الشأن العام" في مقابل الشأن الخاص.لا يعني هذا التقابل، ضرورة، وجود تناقض بين المجالين، ولكنه يفيد في كل الحالات أن التباس العلاقة بين المجالين هو الذي يوجب تحديد قواعد وضوابط تمكن من تثبيت الوجود الاجتماعي للإنسان بما هو بما هو مقتضى تحقق الكوني فيه.
إذا كان تدبير الشأن الخاص يحيل على مستوى الوجود الفردي الضيق، بما يربط تدبير هذا الشأن بالقدرة على اتخاذ القرارات المتوافقة مع المصلحة الشخصية، بغض النظر عن أي مقتضى يتجاوز حدود هذه المصلحة، فإن مجال الشأن العام يتعلق بتدبير المجال الذي لا يمكن أن نتخذ في قرارات بشكل فردي بما أن وجودنا ومصالحنا مقيدة بوجود ومصالح الآخرين.مفهوم الشأن العام يعني بذلك المجال الذي يتقاطع ضمنه وجود المجموعة ومصيرها ،سواء عاد هذا التقاطع على اشتراك في المصالح الاقتصادية،أو اشتراك في الهوية الثقافية، وفي نفس الوقت يكون الشأن العام هو المجال الذي تتناقض فيه ذات المصالح . إن هذا التقاطع سواء فيما يحيل عليه من وحدة أو تخارج وتباين هو الذي يجعل من تنظيم إدارة الشأن العام ضرورة.
تحيلنا مسألة تدبير الشأن العام على مستوى الممارسة السياسية باعتبارها الممارسة التي موضوعها تدبير هذا الشأن الإنساني، بذلك يكون موضوع هذه الممارسة هو تنظيم الفضاء المشترك وبعبارة أخرى تنظيم العلاقة بين مجموع الإفراد بما يسمح بجعل التقاطع الموجود بين مصالح ومشاغل وهواجس الإفراد لا تقوم على التقابل وإنما التكامل.
يخضع تنظيم هذه العلاقة إلى وجود سلطة سياسية تكون مهمتها إدارة الشأن العام والتحكم فيه من خلال توفرها على السيادة التي تجعل من انجاز هذه المهمة ممكنا. يتعلق الأمر إذا في نهاية المطاف بمسالة السيادة التي يقوم على أساسها إمكان تنظيم الشأن العام بما يمكن من تحقيق الإنساني في الإنسان باعتبار إن السيادة هي المبدأ الذي يجعل من ثبات الاجتماع الإنساني واستقراره ممكنا بما يحقق الكوني لا كمطلب وإنما كواقع متحقق.
إذا ما كان وجود سيادة تنظم الوجود الاجتماعي لا يحتمل في إطار الافتراضات السابقة التشكيك أو التضنن ،فان تحديد دلالة السيادة ذاتها وأسسها وغاياتها ومقاصدها كما آليات إنفاذها يضل مع ذلك موضوع لتساؤلات متعددة بتعدد الإاحراجات التي تثيرها المفارقات المرتبطة بمفهوم السيادة تنظيرا وواقعا.
تعود هذه المفارقات تحديدا على ما يشق مفهوم السيادة ذاته من تناقض بين مقتضى إدارة الشأن العام على أساس غائية المصلحة العامة من جهة وطبيعة السلطة التي تقوم عليها السيادة من جهة ثانية بما هي مقترنة بالقوة والهيمنة. إذ كيف يمكن لممارسة تقترن بالسلطة التي تمارس على الأفراد، أن تكون أساسا لخدمة الشأن العام، بما يخدم مصلحة الأفراد في نهاية الأمر؟ يتعلق وجه الحرج الأساسي المرتبط بكل ممارسة سياسية فالتساؤل أولا عن ضرورة وجود هذه السلطة السياسية كما تتجلى في السيادة؟ وثانيا، وهو الأهم ما الذي يجعل من الأفراد يقبلون، بل وحتى يطلبون قيام هذه السلطة بما تقوم عليه من سيادة تنتهي في كل الحالات إلى الحد من حرياتهم وتضييق مصالحهم الخاصة مقابل تضخيم مجال المصلحة العامة؟
تشترط مقاربة جملة هذه التساؤلات، والنظر في مدى وجاهة ادعاء انبنائها على مفارقة حقيقية، تضع وجود الفرد في تقابل مع مبدأ السيادة، أن ننظر في دلالة مفهوم السيادة ذاتها، باعتبار أن مفهوم السيادة هو جوهر كل دولة، بغض النظر عن شكل هذه الدولة، وأساس مشروعيتها . بعبارة أخرى فان كل تفكير في الشأن العام في علاقة بمسألة الدولة يرتبط بإشكال السيادة من حيث تعريفها وإبراز حدودها وأساس مشروعيتها.
1/السيادة والسلطة والمشروعية
إن الانتقال من مستوى الوجود الفردي والشخصي والجزئي، إلى مستوى الوجود المدني السياسي هو المقتضى الذي يتحقق به وجود الإنسان على وجه كوني. هذا الانتقال هو الذي يسمح، تحديدا، بالقطع مع مستوى الوجود الطبيعي المباشر المحكوم بمقتضى الحاجة البيولوجية إلى مستوى وجود، مختلف كليا، يقوم على انتظام اجتماعي مدني سياسي يتحقق ضمنه تحرر الإنسان من الضرورة الطبيعية ليدخل مجال الضرورة الاجتماعية. تتحدد هذه الضرورة الاجتماعية في ضرورة "العيش المشترك"ضمن قواعد ومقتضيات تجعل من العيش المشترك حافزا للاجتماع الإنساني، وليس عبئا، على الفرد احتماله رغما عنه.
يقتضي ضمان العيش المشترك توفر سلطة يكون بمقدورها تنظيم العيش المشترك ورعايته، بمعنى تثبيت المقومات التي تجعل من العيش المشترك مطلبا وليس عبئا. وهو ما يجعل من وجود سلطة تتوفر على آليات تمكنها من تثبيت مطلب العيش المشترك، و سواء ارتبطت هذه الآليات بأدوات المراقبة، أو بأدوات العقاب، فإنها ضرورة تجد مبررها في ذاتها.
يتعلق ضمان العيش المشترك ضرورة بوجود سلطة يكون موضوعها الشأن العام؛ بمعنى التوفيق بين المصالح المختلفة، وأحيانا المتناقضة بين الأفراد. هذا الاختلاف في المصالح، وبغض النظر عن تحديد مبرراته في هذا المستوى، يقود ضرورة إلى النزاع، نزاعا لا يتعلق بمصلحة شخصية وإنما باختلاف الأفراد في تحديد كيفية تنظيم الشأن العام وإدارته. إن هذا التحديد الأولي لدلالة السلطة هو الذي نقصده بمفهوم السلطة السياسية. يجب التنبيه في هذا المستوى أن الحديث لا يعود على دلالة السلطة بإطلاق وإنما فقط على دلالة السلطة السياسية. ذلك ، أنه لا يمكن اختزال دلالة السلطة في مجال السياسي حيث إن فهم حقيقة هذه الظاهرة الإنسانية يوجب حسب ما بينه فوكو الإقرار باتساعها لتشمل مختلف مجالات الوجود الإنساني وفي مختلف مستوياته.
بقدر ما تتعلق الممارسة السياسية الواقعية بالصراع على السلطة، والتحكم في أدوات الهيمنة التي تتيح الانفراد بتدبير الشأن العام، فإنه يجب أن ننتبه إلى ضرورة عدم الخلط بين مفهوم السلطة السياسية من جهة، ومفهوم السيادة من جهة ثانية. فالسيادة تمثل مبدأ الممارسة السياسية ذاتها من جهة الحق والمشروعية. وهي بذلك تتحدد باعتبارها الأساس الذي تقوم عليه ممارسة السلطة، وبعبارة أخرى فالسيادة هي المصدر الذي تستمد منه السلطة السياسية مشروعيتها. فالسيادة هي ما يمنح السلطة السياسية الحق في تنظيم وإدارة الشأن العام. أن نعين على هذا الأساس، الشعب كمصدر للسيادة، مثلا، لا يعني ضرورة أن الشعب هو الذي يمارس السلطة السياسية فعليا، وإنما فقط أن السلطة تمارس باسم الشعب، وهو واقع الحال في ضل النظام الديمقراطي. السيادة إذا هي الأساس والمصدر الذي يضفي على سلطة سياسية ما مشروعيتها.
السيادة تتحدد إذا باعتبارها الخاصية المميزة لكل سلطة سياسية، وهي ما يضفي المشروعية على هذه السلطة بحيث تكون سلطة الدولة هي تجسيد لسياستها. هذا الربط بين سلطة الدولة ومفهوم السيادة هو ما يجعل من سلطة الدولة سلطة عليا ومطلقة بحيث لا يتصور حدودا لسيادة الدولة ولا مبدأ أعلى من مبدأ سيادتها ذاته. أن تتمتع الدولة بالسيادة فإن ذلك يعني أن هذه السيادة هي منبع السلطات الأخرى. على هذا الأساس يكون للدولة الحق المطلق في تشريع القوانين وإنفاذها دون أن تكون، في ذلك، محتاجة للرجوع إلى مبدأ غير ذاتها، ولا إلى مشروعية غير مشروعيتها الخاصة. يحيل مفهوم السيادة بذلك على معاني الهيمنة والسلطة والتحكم التي يتقوم بها وجود الدولة في إطار حدود و مجال سلطتها الواقعي والقانوني. داخل مجال سلطة سيادة الدولة تكون الدولة هي المحتكرة لكل سلطة سواء تعلق الأمر بالتشريع القانوني أو بتنفيذ هذه القوانين.
إذا كانت السيادة تعني داخل حدود الدولة السلطة المطلقة والعليا فهي تفيد في إطار العلاقة بين الدول استقلالية الدولة عن كل سلطة خارجية، أي عن سلطة أي دولة أخرى. وبذلك فانه لا يمكن الحديث عن دولة دون توفرها عن سيادة تامة ومطلقة بما يجعلها قادرة على بسط سلطتها وممارسة هذه السلطة في استقلالية تامة عن تأثير أو مراقبة أي دولة أخرى. يحيل مفهوم السيادة في هذا السياق على مبدأ سيادة الأمة واستقلال إرادتها في مقابل سيادة بقية الدول الأخرى.
إن هذا التحديد الأولي لمفهوم السيادة من خلال ربطه باحتكار السلطة داخل حدود الدولة على أساس انفرادها بمشروعية تشريع القوانين وإنفاذها من جهة ، واستقلالها عن كل تأثير أو تدخل خارجي من جهة ثانية، أصبح اليوم، وفي ضل مظاهر العولمة الاقتصادية والسياسية خاصة يواجه تحديات حقيقية مع تشكل وتنامي ما أصبح يعرف بالقانون الدولي خاصة. إن سلطة الدولة وان بدت لا محدودة انطلاقا من مبدأ السيادة إلا أن الاتفاقات الدولية التي نشأ عنها القانون الدولي والمؤسسات الدولية الحقوقية جعلت من مفهوم السيادة الوطنية موضوع للمسائلة وإعادة التأسيس.يستوجب هذا التحديد الأولي لمفهوم السيادة، بربطه بالمبدأ الذي يضفي على ممارسة السلطة من حيث التشريع والإنفاذ، مشروعية وقبولا، النظر في مقومات السيادة ذاتها من جهة التساؤل عن الأساس الذي يشكل السيادة ويجعل منها هذا المبدأ الأول للسلطة السياسية.
فبأي معنى تتحدد السيادة مصدرا للمشروعية ولمعقولية الممارسة السياسية أصلا؟ وضمن أية شروط ومقتضيات أخلاقية وواقعية يمكن للسيادة أن تكون ضامنا لتوفر شروط عيش مشترك يحقق كونية الوجود الإنساني؟
2/ السيادة ومأزق العنف
* السيادة والحاجة للعنف
يرتبط مفهوم السيادة، في حضارتنا المعاصرة، بالدولة تحديدا، إذ لا يمكن أن نربط أي وجود اجتماعي سياسيي بمبدأ السيادة، غير الحديث عن سيادة الدولة. تكون الدولة بهذا المعنى هي الجهة ، وبغض النظر عما إذا ما كانت تتحدد في شخص، أو في مؤسسة، أو في مجموعة مؤسسات منفصلة ومستقلة، ولكنها في نفس الوقت متكاملة، في احتكار فعاليتين رئيستين؛ تشريع القوانين المنظمة للشأن العام من جهة، وإنفاذ هذه القوانين ، من خلال آليات المراقبة والعقاب ، من جهة ثانية.
ترتبط الدولة، إذن بممارسة العنف ولكن العنف الذي تمارسه الدولة يضل عنفا شرعيا لا من جهة غاياته المتمثلة في ضرورته لتنظيم الشأن العام وإنما من جهة اعتباره شرعيا بالمعنى القانوني. إن عنف الدولة هو العنف الذي يبرره القانون ويفرضه. فالدولة هي الجهة التي تحتكر الحق في ممارسة العنف الشرعي حسب عبارة ماكس فيبر. هذا الربط بين الدولة والعنف يجعلها ليست غير تعبير عن علاقات الهيمنة السائدة داخل المجتمع. يمثل العنف، كممارسة مبررة ومشروعة، الوجه الآخر للسيادة التي تؤسس لوجود الدولة، وما يجعل من ممارستها للسلطة أمرا واقعيا. حين نربط الدولة بالعنف فان المسالة لا تتعلق بشكل الدولة، باعتبار نظامها السياسي إذا ما كان مستبدا أو ديمقراطيا، وإنما بالدولة بإطلاق وبغض النظر عن هذه الفروقات. والعنف ذاته يمكن أن يتجلى ضمن وسائط متعددة سواء كان عنفا ماديا مباشرا يقوم على إلحاق الأذى المادي والمعنوي، أم كان عنفا رمزيا يقوم على توجيه الرأي العام على أساس المغالطة والتزييف والوهم. ولعل السمة البارزة لممارسة العنف اليوم تتمثل في شيوع آليات العنف الرمزي القائمة على التضليل من خلال الدور المؤثر الذي أصبحت تلعبه اليوم وسائل الإعلام بأصنافها المتعددة حتى صار هذا الشكل من أشكال العنف القائم على التضليل بمثابة العلم القائم بذاته. يتخذ هذا العنف المنظم الذي تمارسه الدولة وجهين متمايزين ولكنهما متكاملين. فالدولة الحديثة في ممارستها لسلطتها وتثبيت هذه السلطة تستند على منظومتين من الأجهزة كما بين ذلك "ألتوسير" منظومة الجهاز القمعي وهي تتشكل من جملة مؤسسات الدولة القانونية والمتمثلة في الحكومة والإدارة وجهاز الشرطة والقضاء وهي كلها أدوات تعتمدها الدولة لتكريس ذاتها كسلطة تحتكر ممارسة العنف وتقمع كل من يحاول مشاركتها في التفرد في هذه الخاصية، أو عدم الاعتراف بسيادتها وحتى محاولة الخروج عن هذه السيادة.
غير أن الدولة الحديثة خاصة تعتمد منظومة ثانية من المؤسسات والأجهزة التي تمارس نوعا مغايرا من العنف هو العنف الرمزي. إن آليات العقاب وحتى المراقبة المباشرة لا يمكن لها أن تضمن استمرار سلطة الدولة واحترام سيادتها ما لم تعمد إلى تشكيل أو إعادة تشكيل وعي الأفراد على النحو الذي يجعلهم يقبلون بسلطة الدولة على أساس كونها تتوفر على السيادة. يتعلق الأمر في هذا المستوى بمفهوم الايدولوجيا كما صاغته "الفلسفة الماركسية". تتمثل الايدولوجيا في مجموع الأفكار والمعتقدات والمفاهيم التي تسعى الدولة(باعتبارها ممثلة لمصالح طبقة اجتماعية محددة) لجعلها تبدو في الأذهان بمثابة حقائق مقبولة لا يمكن التشكيك فيها أو الخروج عنها. تعتمد الدولة في تشكيلها لهذا الوعي الزائف على مجموعة من الأجهزة التي قد لا تبدو مرتبطة ضرورة بالدولة ذاتها كالمؤسسة الدينية والمدرسة ووسائل الإعلام والمنظمات والأحزاب.... على هذا الأساس تتحدد الايدولوجيا باعتبارها أقسى أشكال العنف نظرا لقدرتها الفائقة على المغالطة حين تتحول المراقبة إلى مراقبة ذاتية. ليس العنف بالوسيلة أو الأداة الوحيدة التي تؤمن من خلالها الدولة سيادتها وتتيح لها إمكان ممارسة سلطتها غير أن العنف مع ذلك يبقى وسيلتها الخاصة.
بقدر ما يضل اعتماد العنف مبررا باعتباره أحد الشروط الرئيسية التي بمقتضاها يمكن ضمان أقصى ما يمكن من مستلزمات العيش المشترك، فإن ارتباط الممارسة السياسية بالعنف يضعنا في مواجهة جملة من الاحراجات. فممارسة العنف في ضل مطلب تثبيت وتكريس سيادة الدولة وأحقيتها بالانفراد بممارسة السلطة السياسية يمثل قطعا خطرا وتهديدا لمصير الأفراد الخاضعين لها، ذلك أن العنف هو عنف موجه بداية ضدهم، وبغض النظر عن مبرراته. وحتى في حالة القبول بربط سيادة الدولة بأحقيتها باستعمال العنف باعتباره عنف شرعيا فان السؤال عن حجم ومدى العنف المسموح به يضل قائما على نحو جدي.
حتما، إن كل عنف يمكن أن يصدر عن الأفراد بما يهدد العيش المشترك من الواجب مجابهته بعنف مضاد لردعه، غير أن السؤال عن حجم العنف المناسب في مقابل هذا العنف الأول يضل سؤالا وجيها. إن مجموعة من المشجعين لفريق كورة قدم حين يبادرون للعنف كتعبير عن عدم رضاهم على قرارات حكم مباراة هو فعل وان كان لا يهدد بجد العيش المشترك فانه يضل فعلا غير مقبول يجب مواجهته، إلا انه في هذه الحالة يستوجب الأمر أن نتساءل هل يجب إن نواجه هذا العنف بعنف مماثل في الدرجة؟ أم بكمية أكثر أو اقل؟
يحيلنا هذا التساؤل إلى إحراج حقيقي يتعلق لا بشرعية العنف وضرورته، إذ أن مبدأ السيادة ذاته يفترضه، وإنما إلى التساؤل عن حدوده ومداه. ذلك أن كل تعسف في استعمال القوة والعنف حتى وان كان في إطار قانوني بما يضفي عليه شرعية، يجعل من السيادة ذات طابع إطلاقي يربطها بالاستبداد، فينفي عن ممارسة السلطة المرتبطة بها كل مشروعية بافتقادها لمعيار الحق.
يحيلنا التحليل السابق إلى مفارقة أولى: إن ضمان العيش المشترك بما هو مطلب كل ممارسة سياسية ، وبما هو مبرر مبدأ السيادة ذاته يفترض العنف وسيلة وأداة، أ فليس من المفارقة إذن إن يكون شرط ضمان العيش المشترك بما هو قيمة أخلاقية عليا تؤسس للوجود الإنساني وتضفي عليه بعدا كونيا مشروطا باستعمال العنف والإرغام؟ أ لا يحيلنا الوجود السياسي للإنسان في نهاية الأمر إلى مفارقة، حسب صياغة بول ريكور، تتمثل في التقابل بين موقف الإنسان المبدئي الرافض للعنف أخلاقيا من جهة في حين أن وجوده السياسي مقترنا بالعنف؟
إن هذا المأزق بين تحديد لأفق الاجتماع الإنساني القائم على استهجان العنف من جهة وربط سيادة الدولة بممارسة العنف يضعنا في مواجهة مأزق نظري عملي في آن واحد يتعلق بالتساؤل عن مشروعية ربط مبدأ السيادة بالعنف.
فبأي معنى تمثل السيادة المطلقة والغير مقيدة، والقائمة على اعتماد العنف استبدادا يتنافى ومعيار الحق، وكونية الوجود الإنساني؟
* السيادة والاستبداد
تحيلنا دلالة مفهوم سيادة الدولة في علاقة بمسالة العنف، حين نتناول السيادة بما هي سيادة داخلية، إلى مبدأ السيادة باعتبارها مطلقة وغير مقيدة بحيث تكون إرادتها فوق كل إرادة أخرى سواء تعلق الأمر بإرادة جهة معنوية أو بإرادة شخص مادي. بذلك تكون السيادة مصدرا لسلطة مطلقة بحيث لا تخضع هذه السلطة إلا لذاتها، وهو ما يفيد على صعيد الممارسة العملية أن هذه السيادة تحتكر على نحو كامل لا يقبل المشاركة التشريع للقوانين المنظمة للشأن العام كما إنفاذ هذه القوانين وفرض احترامها. وهو ما يعني أن السلطة التي تنبثق عن هذه السيادة هي سلطة مطلقة لا تقبل القسمة أو المشاركة.
إن هذا الربط بين السيادة والسلطة المطلقة التي لا تقبل القسمة أو المشاركة ينتهي بنا إلى مفهوم الاستبداد باعتباره شكل السلطة السياسية المنبثق عن سمات السيادة هذه. يتعين الاستبداد هنا بما هو الحكم الذي يقوم على التفرد بالسلطة بشكل مطلق ولا يقبل مشاركة من أي طرف آخر في إدارة الشأن العام على نحو قطعي.
لا يرتبط الاستبداد بشكل محدد للدولة ولشكل نظام الحكم فيها، فقد يتعين في صورة شخص يكون ملكا أو أميرا أو زعيما، ويمكن أن يتعين في نظام حكم ملكي أو جمهوري، ويمكن أن يستند لشخصية الزعيم الملهم أو الحزب الواحد، ولكننا في كل الحالات أمام أشكال وصور متعددة لوجه واحد هو وجه الاستبداد. غالبا ما لا يقدم المستبد نفسه على أساس كونه مستبدا وإنما يقوم بالتشريع لسلطته المطلقة من خلال مبررات ودعاوي أخلاقية تتعلق بتحقيق الأمن وخدمة المصلحة العامة وتوفر المستبد على خصال استثنائية وتحديد أولويات تنظيم الشأن العام ترتبط باختيارات تتقابل في إطارها مطالب التنمية والأمن الداخلي أو الخارجي مع مطالب الحرية.
بغض النظر عن تطور أشكال الاستبداد، وتنوع مبرراته، فان سمته الجوهرية تضل ذاتها إذ تتعلق بغياب فكرة المواطنة وتحديدا منع وإقصاء الأفراد عن المشاركة في إدارة الشأن العام سواء تعلق الأمر بتحديد الاختيارات العامة المنظمة للشأن العام أو التشريع للقوانين المنظمة للعيش المشترك.
أما السمة الثانية الجوهرية المتعلقة بكل نظام استبدادي فتتعين في غياب المراقبة إذ لا تخضع سلطة المستبد لأي شكل من إشكال المراقبة على ممارسته السلطوية تشريعا وإنفاذا باعتبارها سلطة أولى لا سلطة فوقها. إن غياب مفهوم المواطنة وتغييب الأفراد من مجال المشاركة السياسية من جهة، وغياب جميع أشكال المراقبة عن سلطة المستبد بما يجعل منها سلطة غير مقيدة، ينزع عن هذا النمط من السلطة كل مشروعية، نظرا لافتقاد السيادة التي تتأسس عليها هذه السلطة لمشروعية الحق وتؤسسها على مشروعية القوة.
إن نظام حكم استبداديا يختزل السيادة في شخص الحاكم أو الحزب الواحد، ينتهي تهديدا لإمكان العيش المشترك بتهديده ونقضه لرهانات مطلب العيش المشترك. ليس العيش المشترك غاية في حد ذاته، وإنما هو المقتضى الذي يوفر شروط ارتقاء الوجود الإنساني إلى مستوى الوجود الكوني. تتمثل شروط هذا الارتقاء في احترام ايتيقا التعايش مع الآخر القائمة على الاعتراف المتبادل والتعاون والحوار وفق مقتضيات العقل، غير أن نظاما استبداديا حين ينزع إلى اعتماد العنف غاية ووسيلة وقمع الحرية والحق في الاختلاف واسترقاق المواطنين وحجب صفة النضج والعقل عنهم من خلال الحكم بعدم أهليتهم في المشاركة في تسيير الشأن العام إنما هو انحطاط بالوجود البشري إلى مستوى الوجود الحيواني القائم على توفير شروط ضمان البقاء المادية لا غير. كما دلت التجربة التاريخية أن كل نظام مستبد يضخم بشكل لا نهائي من سيادته مقابل شعبه إنما ينتهي إلى كوارث حقيقية ترتبط بمغامرات الحرب والعنف ضد الدول الأخرى وما ينتج عنه من دمار متبادل يعرض الوجود الإنساني إلى مخاطر الفناء المادي والفعلي.
إن ربط السيادة بالعنف والاستبداد، وبغض النظر عن كل مبررات هذا الربط يستوجب إعادة النظر في مفهوم السيادة ذاتها من جهة مراجعة حدود هذه السيادة، من خلال تعيين حدود ذاتية للسيادة تنبع من مقتضياتها وأسسها ذاتها. في هذا الإطار تتنزل محاولات عدد من المفكرين منذ بدايات العصر الحديث في محاولاتهم إعادة التفكير في حدود والتزامات السيادة.
3/ المواطنة بما هي حد للسيادة
أ : التطور التاريخي للتأسيس لمفهوم السيادة
* السيادة بما هي فاعلية ونجاعة في إدارة الشأن العام: ماكيافلي
ارتبط التفكير في المسألة السياسية عامة، بالوجه الذي يسمح لنا بالحديث عن نشأة التفكير السياسي الحديث بظهور كتاب الأمير لميكيافلي. لقد مثلت أطروحة ميكيافلي في تشريحه لطبيعة الممارسة السياسية وغاياتها تحولا مفصليا داخل تاريخ التفكير في مسألة الدولة. يرتبط هذا التحول في القلب الذي أحدثه ميكيافلي في تحديد مقتضيات التفكير في الممارسة السياسية.، إذ لم يعد الأمر يتعلق بتحديد ما يجب أن يكون،( ما يجب أن تكون عليه شكل الدولة والعلاقات الإنسانية في إطار الممارسة السياسية) وإنما الانطلاق مما هو كائن، والتقيد في تحديد مقتضيات الوجود السياسي للإنسان بما هو كائن فعليا داخل الواقع الإنساني من ممارسات واقعية.
يمكن أن نحدد الانقلاب الذي أحدثه ماكيافلي في مقتضيات التفكير في المسألة السياسية في ثلاثة مراجعات أساسية
- البعد التاريخي : رغم أن ميكيافلي لم يعمد مطلقا إلى إنشاء نظرية في مسألة التاريخ، فان الوعي التاريخي كان حاضرا بقوة في تفكيره من خلال عودته الدائمة في سياق برهنته على موقفه من الممارسة السياسية إلى وقائع التاريخ واستنطاقها ومحاولة بناء أحكامه من الاستنتاجات التي يحيل عليها الحدث التاريخي، فالتاريخ هو مصدر للحكم القاطع. تبين لنا وقائع التاريخ انبناء العلاقات الإنسانية على العنف والصراع وهو ما يستوجب قيام سلطة قوية بمقدورها في آن واحد أن تضمن الأمن الداخلي وأن تصد كل عدوان خارجي.
- الدين والسياسة: يمكن اعتبار ميكيافلي أول المفكرين الذين أسسوا للائيكية والدعوة للفصل بين الدين والسياسة من خلال رفضه للتأسيس للسيادة انطلاقا من مرجعية دينية تربط الممارسة السياسية بالمشروعية الدينية. إن مشروعية السيادة لا يمكن إرجاعها إلى إرادة الاهية متعالية. يعود رفض ماكيافلي للربط بين الدولة والدين لرفضه بداية للمنزلة الثانوية التي وضع فيها التفكير الكنسي المسألة السياسية. إن الدولة لا يمكن بالنسبة للتفكير اللاهوتي ّأن تكون غاية في حد ذاتها وإنما هي مجرد أداة تتقوم بمدى مساهمتها في تحقيق مطلب الخلاص كعقيدة دينية مسيحية.
- الدين والأخلاق: يتعلق الانقلاب، إذا في تجاوز النظر المعياري الذي يربط الممارسة السياسية بمطلب الغايات المرتبط بقيم الخير، وبالتالي التأسيس لأشكال من الانتظام السياسي تراعي إمكان تحقق هذه الغايات، كما هو الحال في بناء أفلاطون للجمهورية، أو تأسيس الفارابي للمدينة الفاضلة، إلى استعادة النظر في المسألة السياسية من واقع حال الوجود الإنساني بغض النظر عن معيارية هذا الواقع. على أساس هذا التحول في تحديد أوليات التفكير في المسألة السياسية تتحدد أصالة ماكيافلي. إن كل تفكير في مسألة الدولة لا يرتبط بالنظر في الممارسة الفعلية والواقعية لا يمكن أن يقول لنا، حسب ماكيافلي، لا حقيقة الدولة ولا شروط بنائها.
إذا كان الأمير لا يكتسب الشرعية لا من الدين ولا من الأخلاق فما هو أساس السيادة التي يمارس انطلاقا منها السلطة إذن؟
ليس للسيادة، وفق ميكيافلي، من مصدر وأصل غير الأمير ذاته. إن سلطة الأمير تجد مشروعيتها في السيادة التي ترتبط بشخص الأمير تحديدا. يجد هذا الربط بين السيادة والأمير مشروعيته من نظرة واقعية للممارسة السياسية؛ ذلك أن نجاح الأمير في افتكاك السلطة واستحواذه عليها تمنح لسلطته مشروعية كاملة. غير أن سيادة الأمير لا يمكن أن تكتسب هذه المشروعية المطلقة إلا بشرط قدرته على الاحتفاظ بهذه السلطة. إن السيادة إذا ليست بالواقعة الأولى المنجزة بشكل أولي، وإنما السيادة تتكون تدريجا في تساوق مع نجاح الأمير في فرض هيمنته وسلطته. يتعلق الأمر بالنجاعة في تحديد مشروعية السيادة؛ نجاعة ترتبط بنجاح الأمير في فرض سلطته بمختلف الوسائل التي يمكن أن تحقق هذه الغاية بغض النظر عن قيمتها الأخلاقية. إن الأمير وفي استعارة بلاغية يجتمع فيه في نفس الوقت دهاء الثعلب وبطش الأسد.
إن هذا التحديد للسيادة بربطها بمنطق النجاعة والتشريع لاستعمال العنف من اجل تثبيت سلطة الأمير لا يجاوز بنا مأزق العنف الذي ينتهي إليه كل نظام حكم استبدادي وبذلك لا يمكن في نهاية الأمر أن القراءة المتسرعة للتاريخ والواقع الفعلي للممارسة السياسية كما استقرائها ميكيافلي يمكن أن تعين لنا حدودا حقيقية للسيادة تخرج بنا من مجال العنف المتناقض ضرورة مع مطلب الكوني كأفق للعيش المشترك.
* من السيادة المشخصة إلى السيادة المجردة: يودون
تمثل لحظة يودون لحظة أساسية في مسار تطور مفهوم السيادة من خلال فصله بين السيادة وشخص الأمير أو الملك. لقد طور يودون في كتبه الستة المعنونة ب"الجمهورية" نظرية في السيادة تقطع مع التصورات السابقة، والتي لم ينجح حتى ميكيافلي في تجاوزها، القائمة على أساس أن الملك يتضمن في شخصه مبدأ السيادة التي تضفي مشروعية على سلطته. فالملك هو السيادة ذاتها بفعل التفويض الإلهي الذي يتوفر عليه فيمنح لحكمه مشروعية مطلقة. حتما إن يودون لم يجاوز أفق التفكير اللاهوتي في السياسة حين يربط في نهاية الأمر بين السيادة وضرورة احترام الحق الطبيعي الذي سنه الإله ، لكنه مع ذلك يخطو بالتفكير الفلسفي في السيادة خطوة هامة إلى الأمام، حين يثبت أن السيادة هي فكرة مجردة تتعلق بمعاني الحق والسلطة المطلقة الغير قابلة للقسمة أو المشاركة، ولا تتعين مطلقا في شخص الحاكم. يعود رفض يودون للربط بين السيادة وشخص الملك إلى الاحتراز من تحلل السيادة وانتفائها بغياب الملك بفعل الموت. فالسيادة يجب أن تضل فكرة بما يجعل من استمرار الجمهورية ممكنا.
تتحدد فكرة السيادة في إطار معاني الإطلاق وعدم القابلية للمشاركة أو القسمة فالسيادة ليس لها حد غير التطابق مع القانون الطبيعي الذي هو من وضع الإله، وبذلك تصبح السيادة وأفعال السلطة المنجرة عنها قابلة للعقلنة وليست أفعالا اعتباطية لا يحكمها سبب أو مبرر يمكن من تعقلها. أن تتحدد السيادة بالإطلاق وعدم القابلية للقسمة أو المشاركة ينتهي إلى التأسيس لنظام حكم مطلق واستبدادي إذ لا يمكن للسيادة بما هي مبدأ اعلي أن تعود إلى ما هو في وضعية ادني أي الشعب. إن السلوك الوحيد المقبول من الشعب هو الخضوع والطاعة العمياء، وهو ما يشرع لنظام استبدادي لا يمكن قبول مبادئه بما هي مبادئ، وفق فلاسفة العقد الاجتماعي، تتناقض ومبدأ الحق.
ب :السيادة بما هي مواطنة
إن جميع أشكال الاستبداد تجد أساسها في فهم محدد لدلالة السيادة يتقوم باعتبارها مطلقة لا تقبل القسمة ولا المشاركة، وبالتالي فان من يمتلك السيادة يمتلك سلطة مطلقة، غير مقيدة وغير محدودة. سواء تعلق الأمر بشواهد التاريخ، وارتباط الحروب والنزاعات بالأنظمة الاستبدادية، أو عودة على قيم العقل الإنساني المطلقة والخالدة المتمثلة في الحق والخير فإننا نجد أنفسنا مجبرين على إعادة التفكير في مفهوم السيادة من جهة التضنن على تعريفها الملتبس الذي يتصورها مطلقة لا حد لها. إن النجاعة مع ميكيافلي، أو صفتها المجردة والمتعالية مع يودون لا يمكن أن تمثل حدودا حقيقية للسيادة تنهي مأزق العنف وجميع مظاهر الاغتراب المرتبطة بأنظمة الحكم المستبدة الناتجة عن التحديد المطلق لمفهوم السيادة.
نشأ الفكر السياسي الحديث على أساس مراجعة مفهوم السيادة من جهة تحديدها وتقييدها ذاتيا بمعنى أن تجاوز جميع أشكال الاستبداد يستوجب تقييد السيادة ذاتها من داخلها من جهة ضبط أسسها بشكل يجعل من السلطة المنبثقة عنها سلطة مقيدة بمقتضيات السيادة ذاتها. إن لحظة القطع الحقيقية التي أذنت بميلاد التفكير الفلسفي الحديث في الدولة ارتبط بمرجعية فلسفية وقانونية أصطلح على تسميتها بفلسفة "العقد الاجتماعي".
تحيلنا فلسفة "العقد الاجتماعي" على جملة من الفلاسفة أهمهم جون لوك وروسو وسبينوزا وهوبس. رغم أهمية الاختلافات في مواقف هؤلاء الفلاسفة، والى حد التناقض أحيانا، فان ذلك لا ينفي تقاطعهم حول فكرة رئيسية مثلت أساسا لنشأة الدولة في صيغتها وشكلها المعاصر. يتجلى هذا التقاطع بين هؤلاء الفلاسفة في مبدأين أساسيين:
- ربط التفكير في الدولة بدراسة الطبيعة الإنسانية وضعيا، بحيث تكون نشأة الدولة ناتجة عن خصوصية الطبيعة الإنسانية ذاتها. إن هذه العودة لدراسة الطبيعة الإنسانية في تحديد أسس الدولة مثل قطعا مطلقا مع التفكير اللاهوتي الذي كان يربط التفكير في الدولة بحقائق دينية.
- اعتبار الدولة اصطناعا وإنشاء إنسانيا فهي قد نشأت بإرادة وفعل الإنسان، هذه الإرادة التي تجلت في العقد الاجتماعي، بما هو عقد إرادي واختياري. يعود أمر تأسيس السيادة، إذا، إلى مقتضيات العقد ذاته من جهة تحديد ضرورته وإطرافه وغايته. على هذا الأساس تضحى السيادة مقيدة من داخلها أـي انطلاقا من خصوصية العقد الاجتماعي الذي أنشأها.