اكتشاف الآخر
اكتشاف الآخر هو أهم ما عرفه الأنسان . انه تعرّف على حقيقة لا تحوزها الأنا ، وادراك لكائن مماثل يحتل مساحة وجود لا يمكن للأنا أن تتمدد في فضائها . الآخر هو” اللا - أنا ” الذي يحدّها ويعرفها، انه مدى الحياة المتنوعة وصور الوجود المتعدد، وحقل امكانات خصبة ومحطة توليد خيارات لا متناهية . بهذا يكون الآخر- حسب وجيه قنصوة- مصدر تحرر الأنا من ” أنا نهائية ” وحتمية ، وساحة اكتشاف وتعرف على ميدان أنتشار وتحقق جديد لها، أي يكون الآخر وسيط خروج من الذات وطريقاً للعودة إليها، ومجالاً لاكتشاف النقص فيها وطريق امتلائها في آن، هو اكتشاف لخارطة وجود الأنا التي لا ترسمها الذات، بل يرسمها وضع وتموضع الذات ضمن نسيج الآخرين. انه، أي الآخر، مشروع الأنا نفسها في عالم الوجود والتحقق.
نقطة البداية في نقد الفيلسوف الفرنسي ايمانويل ليفيناس لفلسفة الذات في الفكر الغربي ، هي التأمل الخامس من كتاب هوسرل “التأملات الديكارتية”. حيث إن الذات حسب هوسرل ذات من بين ذوات أخرى. إنها تحتاج إلى الآخرين لكي تتأمل العالم بطريقة موضوعية. والموضوعي هو ما تشترك فيه الذوات. لكن الذات لا تستطيع النظر إلى الذوات الأخرى بطريقة مباشرة ، ومن ثم فإن ” الآخر ” في هذه الرؤية يصبح ” أنا ثانية ” ، والغيرية شكل من أشكال الأناوية . الأنا لا تستطيع أن تعزو إلى الآخر إلا الأشياء التي تعرفها قبلا.
الشئ نفسه يجده ليفيناس عند هيدجر ، الذي يقول في الفصل الأول من القسم الاول من الجزء الأول من ” الوجود والزمان ” : ” إن جوهر الدازاين يكمن في وجوده. لذلك فإن ما يقبل التحرير من خاصيات هذا الموجود ليس صفات قائمة الوجود لموجود يبدو على هذه الصورة أو تلك بل هو دائما كيفيات استعداده لان يكون ولا شيء غير ذلك. وكل وجود لهذا الموجود على هذه الصورة أو تلك هو بدءا وجود. ومن ثم فإن التسمية ,دازاين, التي نعرف بها هذا الموجود, لا تفيد , ( مثلما هو الشأن عندما نتكلم) عن مائدة أو بيت أو شجرة بل هي تفيد الوجود” .
لذا أعتبر الوجود عند هيدجر محايد ولايبالي بالآخر. ورأى في هذا الحياد عماء أخلاقيا. إنه يرفض فكرة هيدجر القائلة باكتفاء الوجود بذاته ، ويدافع عن أولوية الأخلاق على الأنطولوجيا. إن اكتفاء الكينونة بذاتها هو نوع من نسيان أو رفض الآخر. ولهذا فأنه يجب علي الفلسفة أن تنتقل من الترنسندنتالية إلى الانفتاح على الآخر. وأسبقية الوجود على الموجود . “الاخلاق تتحدد اذا في العلاقة مع الآخر ” فالأنطولوجيا الهيدجرية تخضع في العلاقة مع الوجود كل علاقة مع الموجود . وتقر بأسبقية الحرية على الأخلاق (…) العلاقة مع الآخر، التي تتحقق كأنطولوجيا، تقوم على تحييد الموجود من أجل فهمه والامساك به. إنها ليست علاقة مع الآخر كما هو، ولكن تحويل للآخر إلى شبيه . يقول ليفيناس : ” الفلسفة الغربية اعتبرت غالبا كانطولوجيا ، تقلص الاخر في الشبيه ، انه الوسيط بين الموجود وذاته “.
وفي كتابه “من الوجود إلى الموجود” يؤكد ليفيناس أن الوجود عند هيدجر أو فهم الكينونة هو ما يحدد فضاء المعنى عند الموجود. وهذا ما يسلب غيرية الآخر منذ البداية. يقول دريدا شارحا هذه الفكرة:”الاقرار بأولوية الكينونة في علاقتها بالموجود، هو في حد ذاته كلام حول جوهر الفلسفة، اخضاع للعلاقة مع الموجود ( العلاقة الأخلاقية) للعلاقة مع وجود الموجود، الذي هو وجود لاشخصي، يفضي إلى حجز الآخر والسيطرة عليه (علاقة معرفة)، اخضاع العدالة للحرية… طريقة لاستمرار الشبيه في أحشاء الآخر”
إن أخلاق ليفيناس علي العكس من ذلك. لان الموجود هو مصدر المعنى وليس الكينونة اللاشخصية والمحايدة أما نقد ليفيناس لهيدجر أو للأنطولوجيا لان : ” الميتافيزيقا والتعالي تعامل مع الاخر ك”شبيه” (الاخر هو انا) . هذه هي النواة الصلبة للنظر للاخر كشبيه في الفلسفة الغربية انها جوهر المعرفة والاخلاق في الغرب.
معنى الانية
Ipséité : ce qui fait qu'un être est lui-même et non un autre.(du latin «ipse» soi-même)
هي ما يجعل كائنا ما هو هو لا آخر.
(Larousse «Dictionnaire encyclopedique»)
و الإنية هي خاصية الذات المفكرة التي تستطيع تمثل ذاتها باعتبارها هي هي على الرغم من التحولات التي قد تطرأ على جسدها و روحها. لذلك كثيرا ما نستعمل الإنية بمعنى الجوهر و ذات الشيء مثلما أعلن ذلك الفارابي في كتاب «الألفاظ». فالانية هي وجود الشيء و فعل اثبات تحقق هذا الوجود ، وهي الوجود الاكمل للشيء.
و مسألة الإنية و الغيرية في برنامج الفلسفة في تونس هي مسألة تندرج ضمن مسألة أعم هي الإنساني بين الوحدة و الكثرة التي يحصل فيها للمتعلم الوعي بحاجته إلى التعرف على ما هو إنساني في كل إنسان بين بعدي الوجود الإنساني الإنية و الغيرية كأبعاد تبرز فيها علاقات تقابلية و تناظرية و تكاملية و محايثة... تقودنا إلى الإقرار بأن معرفة الإنساني في الإنسان لا تقتضي فقط الانزواء على الذات بل تقتضي أيضا الانفتاح على كل أشكال الغيرية.[/hide]